الفصل السابع: واجب مهم بناء عالم أخوي وإنجيلي
- بالكامل (3.5 Mo)
- جزء 1 (713 Ko)
- جزء 2 (608 Ko)
- جزء 3 (2.34 Mo)
في خطر الغوص في خمود روحيّ مريع، يوقظنا المسيح بحيويّة :" إمضوا أنتم أيضاً إلى كرمي" ! سنكتشف إلى أيّ حدّ ما تخصّ عظة المسيح هذه كلّ واحد منّا، على الصّعيد الفردي كما على الصّعيد الجماعي. بعدها، سيساعدنا مثل فرنسيس لفهم هويّة الأخ حسب ودّ الله. لكن، سنتساءل، لماذا الذّهاب إلى كرمة الله ؟ ولماذا بناء عالم أخويّ وإنجيليّ ؟ ستسمح لنا دراسة بعض البنود من قاعدتنا(١٠ ٬ ١٤ ٬ ١٥ ٬ ١٦) بالجواب على هذا السّؤال المهمّ "اللماذا؟". وسنكتشف أنّ الجواب الجليّ يوجّه الخليقة بكاملها نحو قمّة : ليأتي ملكوت الله.
- 0
إمضوا أنتم أيضاً إلى كرمي
لنبدأ هذا الفصل بتأمّلٍ للنّص الّذي يُشكّل واحداً من روائع إنجيل حسب القدّيس متى : مثال العمّال المرسلين إلى الكرمة. بعدها، سنمارس روحنا بتأمّل كلمة الله. بالفعل، عندما يتوجّه الله إلينا، لا تنحبس الكلمة الّتي يقولها في حدود بشريّة بسيطة. هي تجرّنا نحو أهداف الل
مثل العَمَلَة المرسلين إلى الكرمة
بدأ المسيح هذا المثال : " يُشبه ملكوت السّماوات رجلاً ربّ بيتٍ خرج بالغداة يستأجر عَمَلةً لكرمه. فشارط العَمَلَة على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه. ثمّ خرج في السّاعة الثّالثة فرأى آخرين واقفين في السّوق بطّالين. فقال لهم امضوا أنتم أيضاً إلى كرمي وأنا أُعطيكم ما يحقّ لكم. فمضوا. وخرج أيضاً نحو السّاعة السّادسة ونحو التّاسعة فصنع كذلك. وخرج أيضاً نحو الحادية عشرة فوجد آخرين واقفين فقال لهم ما بالكم واقفين ههنا النّهار كلّه بطّالين. فقالوا له إنّه لم يستأجرنا أحد. فقال لهم امضوا أنتم أيضاً إلى كرمي. فلمّا كان المساء قال ربّ الكرم لوكيله ادع العَمَلَة وأعطهم الأجرة مبتدئاً من الآخرين إلى الأوّلين. فجاء أصحاب السّاعة الحادية عشرة فأخذوا كلّ واحد ديناراً. فلمّا جاء الأوّلون ظنّوا أنّهم يأخذون أكثر فأخذوا هم أيضاً كلّ واحد ديناراً. وفيما هم يأخذون تذمّروا على ربّ البيت قائلين إنّ هؤلاء الآخرين عملوا ساعةً واحدةً فجعلتهم مساوين لنا ونحن حملنا ثقل النّهار وحرّه. فأجاب وقال لواحدٍ منهم يا صاح ما ظلمتكَ ألم أكن على دينار شارطتكَ. خُذ ما لكَ وامضِِ فإنّي أُريد أن أُعطي هذا الآخر مثلكَ. أليس لي أن أفعل بمالي ما أُريد أم عينكَ شرّيرة لأنّي أنا صالح. فعلى هذا المثال يكون الآخرون أوّلين والأوّلون آخرين."
كيفيّة فكّ مغزى المثال
الأمثال هي بمنزلة مرايا للإنسان : هل يتقبّل الكلمة كالأرض الحجرة أم يتقبّلها كالأرض الجيّدة ؟ ماذا يفعل بالوزنات الّتي أخذها ؟ يسوع ووجود الملكوت في هذا العالم هما في قلب الأمثال سريّاً. يجب الدّخول في الملكوت،أيّ أن يصير الإنسان تلميذاً للمسيح لكي يعرف أسرار ملكوت السّماوات(متى١٣ ١١). أمّا بالنّسبة إلى الّذين يبقون" خارجاً"(مر٤ ١١) فكلّ شيء يظلّ معمّى * مستخرج من ت م ك ك٥٤٦ . . عند طرح السّؤال ليسوع ، أيّ لماذا يتكلّم بالأمثال، أجاب لتلاميذه وقال لهم : " أنتم قد أعطيتم معرفة أسرارملكوت السّماوات . فطوبى لعيونكم لأنّها تنظرُ ولآذانكم لأنّها تسمعُ. الحقّ أقول لكم إنّ كثيرين من الأنبياء والصّدّيقين اشتهوا أن يروا ما أنتم رآءون ولم يروا وأن يسمعوا ما أنتم سامعون ولم يسمعوا" (متى١٣ ١١...١٧).
بما أنّ الأمثال كانت ملفوظة بلغة مرمّزة، علينا إذاً :
• البدء بإكتشاف الأشخاص المختلفة المعنيّة : من هم بالنّسبة لله، بالنّسبة للبشر (وخاصّةً بالنّسبة لي ؟) • ثمّ إكتشاف المعنى المُعطى للمخلوقات الأخرى : إلى ماذا ترمز الكرمة، الإجرة، السّاعات،...؟ • وأخيراً إكتشاف المعنى المُعطى للدّعوات المختلفة، الأسئلة أو الحوارات : ماذا يريد يسوع أن يقول في النّهاية من خلال هذا أو ذالك المثال
عند الإجابة على هذه الأسئلة، سنبحثُ عن فكّ أسرار هذا المثال لكي نفهم ماذا يريد أن يقول لنا الله، أكان على الصّعيد الرّوحي( المجازي * المعنى الرّوحي المجازي.المجاز هو التّعبير عن فكرة من خلال صورة. منقولة من كلمة الله، إنّه المعنى الّذي يسمح فهم الأحداث المعلنة إذا وجدنا مدلولها في المسيح. فمثلاً، إنّ إجتياز البحر الأحمر، هو إشارة إلى الخلاص من الخطيئة المعمول من خلال المسيح.ت م ك ك١١١ وتابع. والتّفسيري * التّأويل الباطني هو فعل الوصول إلى الأزل، هو ارتفاع الرّوح نحو مدلولها الأزليّ. إذاً يتمحور المعنى التّفسيري المعنى الرّوحي التّفسيري. برؤية في كلمة الله، الحقائق والأحذاث في معناها الأزلي، فتقودنا بهذا إلى رمز أورشليم العلويّة.ت م ك ك١١١. ) كما على صعيد التّطبيق الواقعي في حياتي الخاصّة( إنّه المعنى الرّوحي الأخلاقي * المعنى الرّوحي الأخلاقي، أيّ الّذي يتمحور بقيادتنا في وجودنا حسبالإرادة الإلهيّة. بمعنى آخر، تُتَرجم كلمة الله عند سماعها بتحوّل في حياتنا. كوني مسيحي، حيّ لا أنا بل إنّما المسيح حيّ فيّ. ت م ك ك١١١وتابع. ).
دعوتنا جميعاً : تطويبة ملكوت السّماوات
إنّ ربّ البيت الّذي يخرجُ بالغداة، هو المسيح. اللّه أصبح إنساناً ؛" يخرجُ" من ملكوت السّماوات، وينزل على الأرض.
على الأرض، ينادي العَمَلة والعَمَلة هم البشر. يناديهم جميعاً : "إمضوا أنتم أيضاً إلى كرمي." باستطاعتنا تشخيص الدّعوة بترجمتها :" إذهب، أنتَ الّذي تسمع كلمة الله هذه اليوم، إلى كرمة الله." الكرمة، هي العالم بأجمعه. وعلى هذا الأخير أن يتحوّل حسب هدف الله، في سبيل مجيء ملكوت الله النّهائي. إذ إنّ المصيرالنّهائي لكلّ منّا، الهدف بمعنى اليوم، الإجرة في المثال، هو الكون فعلاً في تطويبة ملكوت السّماوات. هنا سنرتاح وسنرى ؛ سنرى وسنحبّ ؛ سنحبّ وسنمجّد ؛ هذا ما سيحدث في النّهاية ودون نهاية. وما هي نهايتنا، إلاّ الوصول إلى ملكوت ليس له نهاية ؟ * القدّيس أغسطين، ٢٢ ٣٠. لنتذكّر دائماً أنّ الله خلق العالم لمعرفته، لخدمته ومحبّته. بفعلنا هذا على الأرض، يتحقّق إذاً الوعد الّذي حصلنا عليه من الله وهوإستقبالنا في ملكوته :" طوبى للمساكين بالرّوح فإنّ لهم ملكوت السّماوات... طوبى لأنقياء القلوب فإنّهم يعاينون الله. طوبى لفاعلي السّلامة فإنّهم بني الله يُدعون. طوبى للمضطّهدين من أجل البرّ فإنّ لهم ملكوت السّماوات. طوبى لكم إذا عيّروكم واضطهدوكم وقالوا عليكم كلّ كلمة سوء من أجلي كاذبين. إفرحوا وابتهجوا فإنّ أجركم عظيم في السّماوات."(متى٥ ٣-١٢).
لكنّ ملكوت الله هذا ليس مخصّصاً لي فقط. العالم بأجمعه مدعوّ. علماً أنّ في المثال، يرمز مجموع ساعات النّهار إلى مدّة حياتنا على الأرض، فالبعض منّا مدعوّين في ساعة مبكرة جدّاً، أيّ غداة حياتهم (السّاعة الأولى). نقلاً عن مضمون النّص المعلن، المقصود هو الشّعب المختار. وأكثر سعةً، المقصود الآن كلّ معمّد في ذراعي والديه. فالبعض لديه الحظّ والقدرة، لمعرفة محبّة الله وخدمته منذ صغره. وطيلة وجودهم، أيّ لكلّ عناء النّهار وحرّه، هم مدعوّين للعمل في كرمة الله. إنّ صدفة مكان الولادة (إذ لا أحد يختار عائلته الّتي ولد فيها، ولا بلاده ولا ديانته) يجعل، أنّ بالنّسبة للبعض، لن يسمعوا نداء الله إلاّ في أثناء وجودهم : إمضوا أنتم أيضاً إلى كرمي. هم عملة السّاعة الثّالثة،
السّادسة أو السّاعة التّاسعة، ساعات ترمز إلى تقدّم في الوجود : عشرون سنة، أربعون سنة، ستّون سنة. في جميع الحالات، وبلا ملل، يدعو الله كلّ فرد إلى الملكوت :" إمضوا أنتم أيضاً إلى كرمي." وأيضاً حتّى النّهاية، حتّى آخر ساعة من الوجود البشري :" وخرج أيضاً نحو الحادية عشرة فوجد آخرين فقال لهم ما بالكم واقفين ههنا النّهار كلّه بطّالين فقال لهم إمضوا أنتم أيضاً إلى كرمي. عند طرحه السّؤال للعملة، "ما بالكم واقفين ههنا النّهار كلّه بطّالين"، أجابوا" إنّه لم يستأجرنا أحد". لآ أحد، قبل هذه السّاعة، قد قال لهم، لم يُعلمهم، أنّ المعلّم يستأجرعَمَلَة للكرمة * بتعليقه على صفحة إلإنجيل هذه، يُترجم القدّيس غريغوريوس الكبير ساعات النّداء المختلفة، يتقاربها من أعمار الحياة فيقول :" بإمكاننا تطبيق تنوّع السّاعات لأعمار الإنسان المتعدّدة. يُمكن الصّباح حتماً تمثيل، حسب شرحنا، الطّفولة. ثمّ، يُمكنُ أن تُمثّل السّاعة الثّالثة المراهقة : تنتقلُ الشّمس نحو أعلى السّماء، ممّا يعني أنّ حماسة العمر قد زادت. الشّباب هو السّاعة السّادسة : تتواجد الشّمس في منتصف السّماء، كما هذا السّن، لنقل ، حيث يتوطّد النّشاط والكمال. تُمثّل الشّيخوخة السّاعة التّاسعة، لأنّها مثل الشّمس، تنحدر من أعلى قمّتها، فهذا العمر أيضاً يبدأ بفقدان الحيويّة والشّباب. تُشير السّاعة الحادية عشر الّذين تقدّموا في السّنّ... إذاً إنّ العَمَلَة مدعوّين للذهاب إلى الكرمة في ساعات مختلفة، وهذا يعني أنّ واحداً منهم مدعوّاً إلى القداسة منذ طفولته، والآخر في شبابه، وآخر في سنّ النّضوج، وآخر في سنّ متقدّم". ( S. Grégoire le Grand, Hom.in Evang.,XIX, 2: PL 76, 5511 (.
أريد أن أعطي هذا الآخر مثلكَ
يُعيدنا تأكيد ربّ الكرمة إلى خلاص المسيح. لقد تجسّد الله الإنسان وذرف دمه لخلاص الجميع. لا يُمكن لأحد منّا القول أنّه مالك دم المسيح. لا أحد بإمكانه التّأكيد : إنّ دم المسيح يخصّني أنا أكثر منكَ بسبب أعمالي. يُحدّد لنا المسيح، ليلة آلآمه، منتفعات جسده ودمه : "هذا هو جسدي،... هذا هو دمي الّذي يُهراق عن كثيرين". الكثيرون، هم نحن، المساكين، الفقراء والخطأة. ضعيفون في النّظر، نحن الّذين ننظر بعين شرّيرة طيبة الله ؛ مساكين لدرجة الإعتقاد أنّ الموضع الأوّل يعود لنا بينما يجب القول أنّنا دون فائدة ؛ مساكين بسبب خطايانا،لكن لحسن الحظّ مغفورة بفعل تضحية إبن الله المقدّم لمحبّة الآب الرّحيمة.
يتضمّن مثال العَمَلَة درسين روحيّين إثنين : الأوّل،تؤمّن الخطّة الإلهيّة، حتّى للمهتدي السّاعة الأخيرة، المكافأة الموعودة من قبل الله. تُذكّرنا شهادة التّأكيد هذه بشدّة في الحوار الوحيد الّذي نجده في
لصّ اليمين والمسيح على الصّليب : إذاًّ إنّ الّذي ندعوه لصّ اليمين هو مجرم حقيقيّ، ويعتبر أنّ كلّ ما يحدث له كما لرفيقه الآخر المنكوب هو عادل. مع هذا ، ينادي المخلّص :" يا ربّ اذكرني متى جئتَ في ملكوتكَ." فقال له يسوع :" الحقّ أقول لكَ إنّكَ اليوم تكون معي في الفردوس." الدّرس الثّاني، هو أنّه لا يجب أبدأً التّذمّر من عدالة الله الرّحيمة. إنّ الّذين يعتقدون أنّ لهم حقوقاً من جرّاء كونهم من الشّعب المختار، تابعوا تذمّرهم ضدّ هذه العالة الإلهيّة الّتي تبدو لهم غير ناجزة ؛ من هنا أيضاً يستبعدون : وبهذه الطّريقة إنّ الآخرين هم الأوّلين والأوّلون آخرين.
إذهبوا أنتم أيضاً إلى كرمي : نداء موجّه لي
لنعرض الآن هذا المثال في حياتنا اليوم. وخرج أيضاً نحو السّاعة التّاسعة، فرأى آخرين واقفين بطّالين. فقال لهم :" امضوا أنتم ايضاً إلى كرمي. " لا ينقكّ نداء المسيح يتكلّم منذ هذا اليوم البعيد من تاريخنا. لا يتوجّه النّداء فقط للأقاسسة، الكهنة، رجال الدّين والرّاهبات ؛ إنّه يشمل الجميع : العلمانيون المؤمنون، هم أيضاً مدعوّون شخصيّاً من قبل الله، الّذين يستلمون منه مهمّة للكنيسة وللعالم. يتوجّه لكلّ إنسان جاء على هذا العالم. * إنّ أهمّ ما في النّصّ الّذي يؤلّف هذا المقطع، كما المقطعين التّاليين، مستخرج من عظة يوحنا بولس الثّاني البابويّة، عظة بعد السّينودس حول دعوة العلمانيين ومهمّتهم في الكنيسة وفي العالم ( Editions Pierre TEQUI 1988). Christifideles laici( les fidèles laïcs) يُذكّره القدّيس غريغوريوس الكبيرعندما يُعلّق على مثال العَمَلَة والكرمة : إذاً، إنظروا فليلاً، يا إخوتي، إلى نمط حياتكم، وتحقّقوا جيّداً إذا كنتم عَمَلَة الله. ليحكم كلّ واحد على عمله ويعي إذا يعمل في كرمة الله". * في الموضع نفسه. في المثال، يندهش ربّ البيت عندما يرى العَمَلَة واقفين دون عمل : فقالوا له :" إنّه لم يستأجرنا أحد. فقال لهم : إذهبوا أنتم أيضاً إلى كرمي." في الكرمة، حيث ينتظرنا جميعاً العمل الكثير، لا يوجد مكاناً للكسل. هل هذا يعني العمل" بأيّ ثمنٍ"، بإمكاننا فعل "أيّ شيء" ؟ في الواقع، بإمكاننا ذكر محاولتين إثنتين لم يستطع العلمانيون الفرار منهما : تجربة التّكريس باهتمام كبير لخدمات الكنيسة وأعمالها، لدرجة أنّهم أحياناً، توصّلوا للتّحرّر عمليّاً من مسؤلياتهم المحدّدة على الصّعيد العائليّ، العملي، الإجتماعي، الإقتصادي، الثّقافي والسّياسي ؛ وبالعكس، إنّ تجربة تبرير الفصل المتعذّر بين الإيمان والحياة،بين إستقبال الكنيسة والفعل الواقعي في المجالات الزّمنيّة والأرضيّة الأكثر تنوّعاً.
لكن في أيّ مكان توجد الكرمة، بالنّسبة لي، أنا العلماني؟
يؤكّد الحبر الأعظم بيوس السّابع عشر : "يتواجد المؤمنون، وتحديداً العلمانيون، على خط حياة الكنيسة الأكثر متقدّماً ؛ بالنّسبة لهم، إنّ الكنيسة هي الأساس الحيويّ من المجتمع البشري. لهذا، عليهم، هم خاصّةً، على تملّك وعيّ دائماً أكثر واضح، ليس فقط الإنتماء إلى الكنيسة، لكن كون الكنيسة، أيّ مجموعة المؤمنين على الأرض، تحت قيادة رئيس المجموعة عام، البابا والأساقفة المتّحدّين معه. هم الكنيسة." * (١٩٤٦) ، ١٤٩ . AAS38 بيوس الثّاني عشر، خطاب للكرادلة الجدد(٢٠شباط١٩٤٦) : علماً أنّ الطّبع العالميّ هو طبع العلمانيّون الخاص والمميّز * Conc.Oecum. Vat.II, Apostolicam actuositatem,5 قانون حول تبشير العلمانيّن ،ينتج أنّ مكان نداء الله المحدّد لهم عليه أن يكون مسموعاً بمعانٍ حيويّة : في أماكن دراسة، أماكن عمل، حيث تُوجد علاقاتهم الودّيّة، الإجتماعيّة، العمليّة، الثّقافيّة. ليسوا مدعّوين لهجر موضعهم الّذي يحتلّونه في العالم. بالفعل، لا تجرّهم العمادة من العالم كما يذكره الرّسول بولس :" أيّها الإخوة ليستمر كلّ واحد أمام الله على ما دُعيَ فيه." لكنّ العمادة توصيهم بدعوة تخصّ بالظّبط موضعهم في العالم : بالفعل، إنّ العلمانين المؤمنون، مدعوّين من قبل الله للعمل في الدّاخل لتطهير العالم، مثل الخميرة، بممارسة مهمّاتهم الخاصّة تحت قيادة الرّوح الإنجيلي، وإظهار المسيح للآخرين قبل كلّ شيء من خلال شهادة حياتهم، المشعّة بالإيمان، بالأمل والإحسان." * Conc.Oecum. Vat. II, Const.dogm. sur l’Eglise Lumen gentium,31 لقد أراد تجسّد الكلمة الدّخول في لعبة التّضامن هذه. لقد طهّر العلاقات البشريّة، خصوصاً روابط العائلة، مصدر الحياة الإجتماعيّة. لقد خضع طوعاً لقوانين بلاده. أراد حتّى عيش نفس حياة صانع زمنه ومنطقته.
تنطبق صور الملح، النّور والخميرة الإنجيليّة، رغم أنّها تتوجّه بلا تميز إلى جميع تلاميذ يسوع، بشكل خاصّ للعلمانيّن المؤمنين. إنّها صور معبّرة بشكل رائع، لأنّها تُترجم ليس فقط باندماج المؤمنين العلمانيّن العميق ومشاركتهم الكاملة في العالم، لكن خاصّةً إندماجاً جديداً ومميّزاً ومشاركة
مخصّصة لنشر الإنجيل الّذي يُخلّص.
ومهما أخذتم فيه من قول أو فعلٍ فليكن الكلّ باسم الرّبّ يسوع المسيح شاكرين به الله الآب
إنّ الدّعوة الأولى الّتي يقدّمها الآب في يسوع المسيح بواسطة الرّوح القدس لكلّ علماني هي الدّعوة إلى القداسة، أيّ إلى الكمال والإحسان. الرّوح القدس الّذي طهّر طبيعة يسوع البشريّة في أحشاء مريم البتول هو نفس الرّوح الّذي يبقى ويدير في الكنيسة لبثّه قداسة إبن الله الإنسان. والقدس هو الشّهادة الأكثر إجلاءً من الرّتبة المخوّلة لتلميذ المسيح. جميعاً، في الكنيسة، وتحديداً لأنّهم أعضائه، ينالون وإذا يُشاركون الدّعوة العامّة للقداسة. تستلزم دعوة المؤمنين العلمانيّن للقداسة أنّ الحياة حسب الرّوح القدس تُعبّر بطريقة مميّزة في اندماجهم في الحقائق الزّمنيّة وفي مشاركتهم في الأعمال الأرضيّة. إنّه ايضاً الرّسول الّذي يدعونا :" ومهما أخذتم فيه من قول أوفعلٍ فليكن الكلّ باسم الرّبّ يسوع المسيح شاكرين به الله الاب"(كول٣ ١٧). مطبّقاً أقوال الرّسول للعلمانيّن المؤمنين، يؤكّد المجمّع الدّيني بشكلٍ صارم : "لا يجب أن تكون العناية بعائلاتهم، ولا الأعمال الزّمنيّة عائقاً لروحانيّتهم." * قانون حول تبشير العلمانيّن. Conc.Oecum. Vat.II, Apostolicam actuositatem ,4 بعدهم، أعلن كهنة السّينودس:" إنّ نظام حياة العلمانيبّن المؤمنين هي بغاية الأهميّة : عليهم فعلاً، التّقديس في حياتهم العاديّة، العمليّة والإجتماعيّة. ولأجل الإستجابة لدعوتهم، على العلمانين المؤمنين إذاً إعتبار حياتهم اليوميّة كمناسبة اتّحاد مع الله وإتمام لمشيئته، وكما أيضاً كخدمة تجاه الأشخاص الآخرين، بتوجيههم للإتّحاد مع الله في المسيح." * Propositio 5.
لنختم بصورة الكرمة الإنجيليّة والأمثال. هي تلخّص هويّة هذه الجذور الضّروريّة الّتي تُمكّن كلّ فرد، باتّحاده مع بقيّة الكرمة، للإثمار بكثرة. تتعلّق ولادة الأمثال وانتشارها باندماجها في الكرمة : " كما أنّ الغصن لا يستطيع أن يأتي بثمر من عنده إن لم يثبت في الكرمة كذلك أنتم أيضاً إن لم تثبتوا فيّ أنا الكرمة وأنتم الأغصان من يثبت فيّ وأنا فيه فهو يأتي بثمر كثير لأنّكم بدوني لا تستطيعون أن تعملوا شيئاً "(يو١٥ ٤-٥).
بناء عالم أخويّ وقیم إنجیلیّة
لنلق الضّوء الآن على سفر فرنسيس إلى سوريا للوعظ بالإيمان المسيحي وتوبةالمسلمين. إنّ النّصّ الّي يلي مستخرج من سيرة توماس دي شيلانو. إنّها مستخرجات من الفصل٢٠.
قد تجعلك القراءة الأولى من هذا النّصّ حائراً ؟ بالفعل، إنّ الّذي يبدو الموضوع الأساسي( مقابلة فرنسيس مع السّلطان) لا يحتلّ مكانة أكثر من التّعاليق المتعدّدة، الإستطرادية ظاهريّاً، الّتي تليه! رغم ذلك سنرى الوحدة الّتي تُسيطر في هذا النّص وما الّذي يبحث عنه شيلانو في النّهاية لكي يجعلنا نكتشف حول فكر فرنسيس الأسّيزي وطريقة تصرّفه.
رغبة فرنسيس للشّهادة، أسفاره إلى إسبانيا وسوريا
ملتهباً بالمحبّة لإلهه، يُريد الطّوباويّ الأب فرنسيس القيام دائماً بمغامرات كبيرة، ويطمح قلبه الكبير البلوغ ، باتّباعه طريق رغبات الله، قمّة الكمال. أيضاً، بعد السّنة السّادسة الّتي تلي إهتدائه، ومتلهّفاً للشّهادة، قرّر المرور إلى سوريا للتّبشير بالإيمان المسيحي والتّوبة للمسلمين. إذاً، ركب فرنسيس مركباً، لكنّ الرّياح جرت عكس ذلك فوجد نفسه على شطوط بعيدة على الأقلّ ١٥٠ كيلومتراً من نقطة الإنطلاق مع جميع المسافرين الآخرين ؛ لقد خيّبته آماله الكبرى. لكنّ فرنسيس، خادم الله العليّ، أدار ظهره للبحر وذهب يجوب الأرض ؛ قلب هذه الأخيرة من سكّة المحراث بواسطة كلماته ونشر حبّة الحياة الصّالحة الّتي تؤمّن حصاداً وافراً ؛ فعلاً هم كثيرون هؤلاء الرّجال الجديرين والكرماء، رجال دين وعلمانيّن الّذين يأتون ليشاركوا حياته. متأثّرون بنعمة العليّ،يريدون الهروب من العالم والإبتعاد بشجاعة من الشّيطان. لكن إذ كانت الشّجرة الإنجيليّة تُثمر بكثرة ثمار ممتازة، فلم تظلّ رغبة الشّهادة الرّائعة أقلّ تأجّجاً في قلب فرنسيس. لهذا، بعد وقت قليلٍ،سلكَ طريق المغرب للتّبشير بإنجيل المسيح إلى المرمولين والإخوة في الدّين. قد كانت هذه الرّغبة قويّة جدّاً لدرجة أنّه يتجاوز أحياناً رفيقه في الدّرب ويُسرعُ،ثملاً بالرّوح القدس، لتحقيق مشروعه. لكنّ الله، في
طيبته، أراد الإهتمام بي (توماس دي شيلانو) وبآخرين كثر : لقد ذهب فرنسيس سابقاً إلى إسبانيا عندما واجهه الله ولمنعه بالذّهاب أبعد من ذلك، أصابه بمرضٍ أجبره بمقاطعة سفره. بعد عودته بقليل إلى البورتسيونكولا، مَثَلَ تلاميذ جدد، نبلاء ومتعلّمين. من خلال روحه النّبيلة وحسّه النّادر للمواقف، يعلم كيفيّة إستقبالهم بشرف وفخر، مبادلاً كلّ واحد ما هو المطلوب منه. موهوب بفطنة ساحرة، يعتبر قيمة مكانة كلّ فرد. لكنّه لم يجد الرّاحة لروحه طالما لم ينجح في ميوله. لهذا، في السّنة الثّالثة عشر بعد اهتدائه، مضى إل سوريا حيث يُكافح المسيحيون كلّ يوم ضدّ الكافرين معارك بطوليّة وقاسية. أخذ رفيقاً وذهب دون خوف لمواجهة سلطان المسلمين.
من باستطاعته وصفه لنا مقاوماً بجرأة، متكلّماً بشجاعة، مجيباً بتأكيد وحرارة على الّذين يشتمون ديانة المسيح؟ إذ لقد أُوقف من قبل الحرّاس قبل وصوله إلى السّلطان، موسعاً بإهانات وبضربٍ، لكنّه لم يرتعش ؛ هدّدوه بالموت، لكنه لم يتبلبل ؛ وعدوه بالعذاب، فلم بضطرب. بعد أن كان لعبة الكثير من الكره، إستُقبلَ أخيراً وبكثير من الأدب من قبل السّلطان الّذي أعطاه جميع علامات المراعاة وقدّم له العديد من الهدايا لمحاولة تأثير روحه نحو ثراء العالم. لكن مكتشفاً أنّ فرنسيس يرفض بحيويّة كلّ هذه الخيرات، بقي مندهشاً، ينظرإليه مثل رجل غير عاديّ ؛ أصغى إليه بكلّ طيبة وتأثّر بكلماته... لكن هنا أيضاً رفض الله تلبية رغبات القدّيس : إنتظر لمنحه بحظوة خاصّة لنعمة أخرى.
الإهتداء، تهيئة لبناء عالم أخويّ وإنجيلي
اليس من المدهش أن يُحدّد توماس دو شيلانو الأحداث المختلفة المذكورة في هذا النّصّ ليس من خلال تواريخ كما قد يفعله مؤرّخ، لكن بذكره مرجعاً لحدث، حدث لا يُذكره مع ذلك في التّاريخ؟ يعلمنا توماس دو شيلانو إذاً أنّ أولى محاولة فرنسيس للذّهاب إلى سوريا تتمحور في السّنة السّادسة الّتي تلي إهتدائه. يستعمل نفس الأسلوب للسّفر الثّاني إلى سوريا : السّنة الثّالثة عشر الّتي تلي إهتدائه. الحقّ يُقال يبدو جيّداً أنّ مجموع النّص يتمحور حول هذا الحدث : إهتداء فرنسيس. في الفصل الأوّل من هذا الكتاب، إكتشفنا ما كان الحدث في حياة فرنسيس المُسمّى من قبل توماس دو شيلانو بالإهتداء : المقصود
الملاقاة مع الأبرص وكلّ ما نتج عن ذلك بالنّسبة لفرنسيس. في وصيّته، يروي فرنسيس إهتدائه(المذكورة أيضاً بالتّوبة) محدّداً أصلها : هكذا أعطاني الرّبّ، أنا الأخ فرنسيس، أن أبدأ بالتّكفير. بالنّسبة لفرنسيس، إنّ الله هو أساس إهتدائه. هو الرّاعي الّذي جاء يبحث عن خروفه الضّال : إذ لمّا كنتُ في الخطايا، كانت تبدو لي رؤية البُرص مُرّةً جدّاً. وقد قادني الرّبّ نفسه بينهم. والإهتداء هو جواب الإنسان لنداء الله الّذي يدعوه للإتّحاد معه. إنّ لهذا الإهتداء وجهين بإمكاننا وصفهما بالّلا إنحلاليّة :
١) التّحوّل الدّاخلي المهمّ، الّذي يلخّصه فرنسيس في وصيّته بهذه الكلمات : وبعد ذلك، بقيتُ قليلاً ثمّ هجرتُ العالم ؛ ٢) الأفعال الخارجيّة الّتي يأمرها هذا الإهتداء : ورئفتُ بهم. يمرّ الدّخول في الإتّحاد مع آب جميع البشر، يمرّ ضروريّاً بإتمام مشيئته.
يشرح فرنسيس بسعادة صلاة الآب ويفصّل، بتوازن وترتيب كاملين، هذا الوجه المزدوج من الإهتداء عندما يتحدّث عن إتمام مشيئة الآب :
- لتكن مشيئتكَ كما في السّماء كذلك على الأرض :
- كي نحبّكَ
- بكلّ قلبنا، مفكّرين دائماً فيكَ ،
- وبكلّ نفسنا، راغبين دائماً فيكَ،
- وبكلّ ذهننا، موجّهين نحوك كلّ نوايانا، وملتمسين، في كلّ شيء، إكرامكَ،
- وبكلّ قُدرتنا، منفقين كلّ طاقاتنا وأحاسيس نفسنا وجسدنا،
- في خدمة حبّكَ، دون أيّ شيء سواه ؛
- ولكي نحبّ القريب، حبّنا لأنفسنا،
- مجتذبين الجميع إلى حبّكَ، بكلّ قدرتنا،
- مسرورين، بخير الآخرين، كما نُسرّ بخيرنا،
- ومتعاطفين مع آلامهم عند المصائب،
- وممتنعين عن آيّة إهانة لأيّ إنسان. * تعليق على الأبانا ٥.
يُطلعنا سرد سفر فرنسيس إلى سوريا المنقول من الأخ شيلانو تطبيقاً واقعيّاً لهذا الإتّحاد مع آب السّماوات. لنتوقّف بضع لحظات على بعض تفاصيل هذا السّرد.
محبّة الآب
قد تبدو المفردات المستعملة من قبل الأخ شيلانو لوصف تصرّف بطل قصّته مفرطة : باتباعه طريق رغبات الله ؛ خادم الله العليّ ؛ ثملاً بالرّوح القدس ؛ ملتهباً حبّاً لإله ؛ متلهّفاً للشّهادة ؛ رغبة الشّهادة الرّائعة ؛ نشر حبّة الحياة الصّالحة. لكن عندما نقارن هذه الأوصاف بأبانا فرنسيس المفصّل، نرى فعلاً أنّها نفس النّسغ الرّوحيّة الّتي تجري. يصف لنا شيلانو شخصيّة فرنسيس بدقّة وإحكام قد يحسده كاتب سير الأكثر دقّة : كي نُحبّكَ بكلّ قلبنا مفكّرين دائماً فيكَ ؛ وبكلّ نفسنا، راغبين دائماً فيكَ... بالنّسبة لفرنسيس، تتطلّب محبّة الله إلتزاماً شخصيّاً طاملاً، محبّة دون حدود من قبل جميع البشر.
التّحرّك نحو الآخر
ولكي نُحبّ القريب، حبّنا بأنفسنا... يقول لنا فرنسيس في شرحه. إنّ ما هو مدهش عند فرنسيس، هو أنّه واعٍ أنّنا جميعاً أبناء أب واحد، سيتحرّك هذا الأخير عند الآخروذلك لجعله قريباً : قريب منه طبعاً مثل أخ ؛ لكن خاصّة قريب من هذا الآب الوحيد الّذي نحن أولاده.
محبّة الأقارب كنفسه : باجتيازه البحر، بتجوابه الأرض، يُزيلُ فرنسيس المسافات. يجعل بحيث أنّ يُصبح الإنسان الأكثر بعداً "قريباً" . لا نقابل سلطان العرب بكوننا منغلقين في بيتنا، لكن بهجر كلّ شيء والذّهاب لملاقاته. لا ينفكّ سرد شيلانو بتذكيرنا هذا التّحرّك المستمر نحو الآخر والّذي يُبرّره : ملتهباً بالمحبّة؛ لإلهه يُريد الطّوباويّ الأب فرنسيس القيام دائماً بمغامرات كبيرة؛ قلب الأرض من سكّة المحراث بواسطة كلماته ونشر حبّة الحياة الصّالحة ؛ قرّر المرور إلى سوريا للتّبشير بالإيمان المسيحي؛ سلك
طريق المغرب للتّبشير بإنجيل المسيح؛ كانت هذه الرّغبة قويّةً جدّاً ؛ ذهب دون خوف لمواجهة سلطان المسلمين...
إنّ اهتمام فرنسيس هو محبّة جميع إخوته على الأرض بتقريبهم من أبينا السّماويّ : لكي نحبّ القريب، حبّنا لأنفسنا،مجتذبين الجميع إلى حبّكَ. ولا يتحرّك فرنسيس نحو الآخر، بأسلحة حرب في الأيادي. لا يبحث عن الإهتداء بأيّ ثمن وبشتّى الطّرق. لكن على عكس المحاربين الصّليبين في آنه، ومدافعي الله الآخرين، من عصرنا اليوم، لا يستعمل فرنسيس السّيوف والرّمح، الأحصنة والدّبابات، الدّرع والشّكّة. بالنّسبة لفرنسيس، إن إتمام مشيئة الله تجاه جميع الإخوة على الأرض، هو اجتذابهم جميعاً لمحبّة الله بمشاركتهم أفراحهم، بمساعدتهم لتحمّل أحزانهم، وبعدم أذيّتهم.
إستقبال الآخر
بإمكاننا التّساؤل في سرد هذا السّفر إلى سوريا، لماذا يروي توماس دي شيلانو مجيء تلاميذ جدد في قلب رهبنة الإخوة الأصاغر : الرّجال الجديرين والكرماء... مَثَلَ تلاميذ جدد،نبلاء ومتعلّمين... ليشاركوا حياته. هل نسي الأخ شيلانو نقطة الواقع لهذه الدّرجة أو روح التّحليل ليُخطء بمزجه هكذا أنواع ؟ ما هو الرّابط بين وصول هؤلاء التّلاميذ الجدد والسّفر إلى سوريا ؟
في هذا الإستدعاء، المرتجل ظاهريّاً، يروي الأخ شيرنو بضع فضائل فرنسيس في مضمون يعرفه تماماً إذ قد عاشه بنفسه : ... لكنّ الله في طيبته، أراد الإهتمام بي وبآخرين كثيرين. لقد تأثّر المريد الشّاب ربّما بالإستقبال الّذي قد حضّره له فرنسيس عند وصوله إلى الرّهبنة. وقد كان شاهداً بالطّريقة نفسها باستقبال التّلاميذ الآخرين، الّتي كانت حياتهم البدائيّة (جديرون وكرماء... نبلاء ومتعلّمين)ربّما مطابقة لحياته عندما تقدّم بنفسه، وقد كان بإمكانها أن تخمد بمغروم فقر وبساطة مثل فرنسيس. لكنّ فرنسيس إستقبلهم بشرف وفخر مبادلاً كلّ واحد ما هو المطلوب منه. موهوب بفطنة ساحرة، يعتبر قيمة مكانة كلّ فرد. بالفعل، يعرض لنا شيلانوفضائل فرنسيس في مضمون يعرفه تماماً، كما ليقترح للقارئ أنّها نفس الفضائل الّتي استظهرت عند فرنسيس عند مقابلته مع السّلطان. إنّ ما ينقله الأخ شيلانو حتماً، هو أنّ السّلطان إستقبل فرنسيس بكثير من التّهذيب. هناك، من جهة الأشخاص الأصيلين ثقافات وديانات مختلفة
إستقبالاً وإصغاء متبادلين. الإستقبال والإصغاء : هما الفضيلتين الضّروريّتين لصانع السّلام، فضيلتين تشهدان لبناء عالم أخويّ... لكن قبل ذلك، خاض فرنسيس ورفيقه هذه المحنة.
الإعتقال من قبل الحرّاس : الخادم في المحنة
كلّ ما يسبق جميل جدّاً، وحتّى كمالي! بودّنا العيش جميعا والكون ممثلي هذا النّوع من المواقف. عندها سنكون صانعي سلام نشيطين في العالم. من يدري إذا لم نصبح معروفين، معترفين ، وحتّى متملّقين في العالم أجمع لإتمام أعمال كهذه ؟ أليس للمجد أصدقاء عدّة ؟ لكن، لنتذكّر توصية فرنسيس الخامسة. يدعو هذا الأخير كلّ إنسان لعدم التّكبّر، لكن بوضع فخره على صليب المسيح. وأيضاً إنّ خادم المسيح مدعوّ للتّشبّه بمعلّمه حتّى في هذه المحنة. هذه المحنة هي جائزة تلاميذ المسيح : إن كانوا اضطهدوني فسيضطهدونكم(يو١٥ ٢٠).
وعندما نكون فرنسيسن يُصبح هذا التّشبيه حتّى في هذه المحنة، منشوداً، مرغوباً أكثر من أيّ شيء : ...متلهّفاً للشّهادة؛ ... فلم تظلّ رغبة الشّهادة الرّائعة أقلّ تأجّجاً في قلب فرنسيس.
إنّ التّحضير للسّفر نحو سوريا واستقبال تلاميذ جدد هما القسمين الّذين يُجيبان ويُمهدّان المقابلة مع السّلطان. رغم المظاهر الّتي قد تجعلنا نعتقد أنّ المقابلة مع السّلطان تُشكّل القسم الأكثر أهميّة في القصّة، فبالواقع إنّ الإعتقال من قبل الحرّاس وما يتبعهه، هو ما يُشكّل أهميّة هذا النّص. في نظر فرنسيس (وفي نظر الكنيسة) إنّ الشّهادة هي تقليد المسيح الكامل، المشاركة المتمّمة لشهادته ولعمله الخلاصي. لكن، في هذه الحلقة، وكأيّ تلميذ للمسيح، فرنسيس هو لعبة هذا العالم : هو معتقل من فبل الحرّاس، موسعاً بإهانات وبالضّرب، مهدّداً بالموت والعذاب،... هنان يُقلّد تواضع المسيح، الّذي تتحدّث عنه خاتمة شيلانو، والّتي ستكون إستقبال السّمات : إنتظر لمنحه بحظوة خاصّة لنعمة أخرى.
هل يتطلّب بناء عالم أخويّ وقيم إنجيليّة إهتداء القريب لإيمان المسيح ؟
لم نبحث بعد لتحديد ما يُمكن أن يكون" بناء عالم أخويّ وقيم إنجيليّة ". سنُجيب بشكل مفصّل أكثر قبل هذا الفصل * في تعليق البند١٤ من قاعدتنا، في § المعنون :" الماء المحوّل إلى خمر : بناء عالم أخويّ وإنجيلي". .
في الحاضر، ومستفيدين من قصّة سفر فرنسيس إلى سوريا، لنطرح هذا السّؤال : هل علينا الإعتقاد أن بناء عالم أخويّ وقيم إنجيليّة عليه المرور من خلال اهتداء البشريّة بكاملها للإيمان بالمسيح ؟ ألا يرسلنا المسيح بنفسه بمهمّة : إذهبوا الآن وتلمذوا كلّ الأمم(متى٢٨ ١٩) ؟ رغم ذلك، عندما نسمع فرنسيس يُعلّم أخيه ليون ما هو الفرح الكامل( زهيرة ٨) ، بإمكاننا مشاركة إندهاش الأخ ليون بخصوص العمل الرّسولي : أيّها الأخ ليون، حتّى ولو سيُبشّر الأخ الأصغربشكل رائع لدرجة أنّه سيهتدي جميع المؤمنين لإيمان المسيح، إكتب أنّ هنا لن يكون الفرح الكامل. ويزيد القدّيس بولس : ولو كانت لي النّبوّة وكنتُ أعلم جميع الأسرار والعلم كلّه ولو كان لي للإيمان كلّه حتّى أنقل الجبال ولم نكن فيّ المحبّة فلستُ بشيء(١كو١٣ ٢).
تَدعُنا المشكلة المطروحة بهذه الطّريقة نلمح الجواب على السّؤال المطروح : لا يجب أن يُعلّق بناء عالم أخويّ وقيم إنجيليّة، ولا يُمكنه أن يُعلّق، لإهتداء سابق للعالم أجمع للإيمان بالمسيح المخلّص والرّحيم. سيكون بدون معنى، إنحرافاً رهيباً، جدير لتأخير مُلْكَ الله على الأرض. لنتخيّل للحظة ما سيكون الإنكفاء الّذي سيفرضه المسيحي وسيفرضه على العالم وعلى الله بتفكيره هذا :" لن أكون أخويّاً ومحسناً مع قريبي إلاّ إذا اهتدى إلى إيماني" ! سيكون هنا عبادة إيمانه الخاص ومعتقداته بدل الإيمان بالله الواحد. سيكون نوعاً ما سلوك تصرّف الفرّيسي الّذي يلوم يسوع لشفائه المرضى يوم السّبت أو إستقباله الخطأة بحرارة.
تُعطينا القصّة الصّغيرة الّتي ينقلها لنا توماس دي شيلانو حول سفر فرنسيس إلى سوريا مثلاً * مثال "نموذجي" .ليس معبّراً جيّداً، لكنه حقيقي لدرجة عالية. على ما هو بناء عالم أخويّ وقيم إنجيليّة. نرى فرنسيس كيف يذهب للقاء الآخر، وآخر آه كم هم مختلف عنه ! ويُظهر فرنسيس من هذا الّلقاء إستقبالاً للآخر مبنيّ على احترام هذا الأخير. لا نسمع فرنسيس ينتقد السّلطان، أوحتّى ديانته، لا في هذه الّلحظة ولا حتّى عند عودته من سوريا. إنّ مواقف فرنسيس هذه مؤكّدة عند كتابة قاعدته الأولى( ١ق ٥-٧) : بإمكان الإخوة الّذين يذهبون (عند المسلمين وسواهم من غير المؤمنين)، أن يعيشوا روحيّاً، بينهم بطريقتين : إحداهما الإمتناع عن أيّ جدال أو نقاش، والخضوع لكلّ خليقة بشريّة من أجل الله والإعتراف بأنّهم مسيحيو. والطّريقة الأخرى هي، عندما يبدو أنّ
ذلك يُرضي الرّبّ، إعلانهم كلمة الله... لنعي عيش هذه الّلقاء وهذا الإستقبال في كلّ مكان حيث يوجّهنا قدرنا : عائلتنا، عملنا، بلدتنا، بلادنا، وفي كلّ الكون.
ليأتي ملك الله
سنقوم الآن بالتّعمّق في أربع بنود من قاعدتنا. إذا قد جُمعت دراسة هذه البنود في فصل واحد، فلأنّ المفاهيم الّتي تُفصّلها هي، تحت جهات عدّة، قريبة قليلاً الواحدة من الأخرى. وهكذا، تسمح دراسة الواحدة بإغناء فهم الآخرين.
البند١٠.
لمساعدتنا للتّعمّق في بند قاعدتنا هذا، سنبدأ بالتّجوال نحو العام٦٠٠ قبل المسيح، تحت سيطرة ملوك يهوذا، يوشيا ويوقيم حتّى نفي أورشليم إلى بابل. المقصود من هذه الفترة المأساويّة حيث حُضّر وتمّ سقوط ملكوت يهوذا. كانت مهمّة النّبي أرميا تبشير كلمة الله خلال كلّ هذه الفترة.
هكذا قال الرّبّ
إنّ ارميا هو هذا النّبيّ الّذي سيكون مختاراً من الله منذ أحشاء أمّه لإعلان كلمته :
" قبل أن أصوّرك في البطن عرفتكَ وقبل أن تخرج من الرّحم قدّستكَ وجعلتكَ نبيّاً للأمم" ( أر١ ٥). ليست النّبؤات الّتي سيعلنها مستحبّة للسّماع من قبل معاصريه. سيبدأ أوّلاً بذكر حكم إسرائيل. عندما نقول "هو" سيبدأ،فبكونه
نبيّاً، أيّ، أنّ كلّ ما سيعلنه سيكون باسم الله. زد على ذلك، ستبدأ كلّ واحدة من تدخّلاته بعبارة : "هكذا قال الرّبّ ".
هكذا قال الرّبّ : قد تذكرتُ لكَ مودة صبائكَ محبّة خطبتكَ... إنّ إسرائيل قدس للرّبّ وباكورة غلّته... هكذا قال الرّبّ : ماذا وجد في آباؤكم من الظّلم حتّى ابتعدوا عنّي ؟ واقتفوا الباطل وصاروا باطلاً... إنّ شعبي صنع شرّين، يقول الرّبّ : تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة، واحتفروا لهم آباراً، آباراً مشقّقة لا تُمسكُ الماء... إنّكَ منذ الدّهر كسرتَ نيركَ وقطعتَ ربطكَ وقلتَ : لا أتعبّد. فإنّكَ على كلّ أكمّةٍ عاليةٍ وحت كلّ شجرة خضراء اضّجعتَ زانيةً. وإنّي غرستكَ أفضل كرمة وزرع حقّ بجملته فكيف تحوّلت لي إلى غرس كرم أجنبيّ ! (أر٢ ٢، تمّ ٢ ٣، ثمّ ٢ ٥، ثمّ ٢ ١٣، ثمّ ٢ ٢٠ـ٢١).
إذاً يعيش إرميا قصّة الشّعب الإسرائيلي المأساويّة، المنفي أخيراً إلى بابل، واعظاً، مهدّداً، متنبّئاً الهلاك، محذّراً دون جدوى الملوك العاجزين الّذين يتتابعون على عرش داود. هو متّهم بالإنهزاميّة من قبل العسكريّن، مضّطهد، معتقل. ليست مأساة هذه الحياة نقط في الأحداث الّتي يشترك فيها إرميا ؛ المأساة هي أيضاً في النّبيّ نفسه. لديه روحاً حسّاسة، مصنوعة للمحبّة، وهومرسل" ليقلع ويهدم ويهلك"( ار١ ١٠). عليه التّنبّؤ خاصةً بالشّدّة(ار٢٠ ٨).
هو يبغي السّلام وعليه دائماً المقاومة، ضدّ أفراده، ضدّ الملوك، الأنبياء الكذبة، والشّعب بكامله. في نظر معاصريه، هو" إنسان خصام ونزاع للأرض كلّها"( ار١٥ ١٠). هو محروق بسبب المهمّة الّتي لا يُمكنه التّخلي عنها( ار٢٠ ٩). إنّ حواراته الدّاخليّة مع الله مليئة بصرخات آلام : لماذا صارت كآبتي مستديمة ؟( ار١٥ ١٨). والمقطع المؤلم الّذي يُعلن بيعقوب : ملعون اليوم الّذي ولدتُ فيه... (ار٢٠ ١٤). لكنّ هذا الألم قد طهّر روحه ومهّد له الطّريق لصلة إلهيّة.
إنّ المدهش عند إرميا، هو ذلك المصدر الّذي يستمدّ منه لكي يتوجّه، ليس فقط إلى معاصريه، بل أيضاً إلينا اليوم. هو لا يقول :" هكذا قالت اإجراءات"، ممّا الّذي قد يسمح له باعتباره من قبل معاصربه، أو أيضاً "هكذا تريد الغالبيّة" ، أو "هكذا قال المجمع"، أو "هكذا قال الحزب السّياسي"، أو أيضاً "يُطبّق القانون الأقوى"، "ممنوع المنع"، و"إفعلوا ما تريدون"، بل يقول، يُعلن، رغم جميع العقبات : "هكذا قال الرّبّ". إنّها كلمة الله الّتي تبنيه، تدهشه، تقوده، رغم الآلام والإضطهدات. بوضعه القيم الإلهيّة في الطّليعة، بكشفه عن العلاقات الحميمة الّتي على الرّوح أن تبنيها مع الله، يُحضّر إرميا العهد الجديد المسيحي. لقد جعلت حياة الإنكار والألآم في خدمة الله من إرميا رمز المسيح.
وضع مشيئتنا في مشيئة الآب
لنقرأ من جديد البند ١٠من قاعدتنا. هو لا يكذب، لا يروي قصّةً رومنطقيّة خياليّة وفقط قادرة على البقاء، دون علاقة مع الحياة الواقعيّة. المقصود الطّاعة، الإتّحاد مع طاعة يسوع المخلّصة ؛ يجب وضع مشيئتنا في مشيئة الآب، القيام بتعهداته بإخلاص. باختصار، إتّباع هذا الكلمة المتجسّد، كلمة الله. يأمرنا فرنسيس، في الرّسالة لجميه الرّهبنة، بنفس الطّريقة ويُحدّد لنا أيضاً كيف يجب استقبال كلمة الله وما يجب فعله : أميلوا أُذن قلبكم، وأطيعوا صوت ابن الله(٣ ر٦). يُصرّ فرنسيس حتّى بعدها، إذ ليس المقصود سماع كلمة الله، بل بإتمامها : احفظوا وصاياه بكلّ قلبكم وتمّموا مشوراته بذهن كامل (٣ ر٧). في جميع الحالات، على أن تُحيا هذه الوصايا والنّصائح للعيش في مختلف مواقف الحياة، في اتّحاد مع يسوع، لأنّه أرسلكم إلى العالم أجمع، كي تشهدوا لصوته، بالقول والعملن ولكي تُحيطوا الجميع علماً بأنّ لا أحد سواه كلّي القدرة(٣ ر٩). بفعلنا هذا، نعلم ما ينتظرنا، لأنّ العبد( أنا اليوم) ليس أعظم من معلّمه (المسيح الفقير والمصلوب)(يو١٥ ٢٠) :
حتّى في الصّعوبات والإضطهدات، تقول قاعدتنا. هل تعني أنّنا يجب البحث عن الصّعوبات والإضطهدات ؟ لا، لا لزوم للبحث عنها. هي تأتي إلينا دون الحاجة للبحث عنها. لكن علينا القول مجدّداً أنّ الّذي يُريد إتّباع المسيح عليه :١/ التّخلّي عن نفسه( إنّها أوّلا ً صعوبة حقّا)ً، ٢/حمل صليبه كلّ يوم (أيّ أن يكون لديه روح التّضحية، قادراً على التّألّم محبّة لله وأبنائه، البشر)، ٣/وأخيراً إتباع المسيح، المخلّص. يُشجّعنا فرنسيس : ثابروا في التّأديب، والطّاعة المقدّسة، واعملوا بقصد صالح وثابت، بما وعدتموه به(٣ ر١٠).
البند١٤.
نفسه أكثر إنساناً"، سيمارسون بجدارة مسؤلياتهم الخاصّة في روح مسيحي للخدمة. * ، قانون عن الكنيسة ٤١؛ قانون عن الكنيسة في عالم اليوم ٩٣. II فاتيكان
مع جميع الأشخاص ذي الإرادة الطّيبة
للتّعريف بالإرادة الطّيبة، يجب أوّلاً التّحدّث عن الحريّة. الحريّة هي القدرة على الفعل أو عدمه، على فعل هذا أو ذاك، وعلى القيام هكذا، من تلقاء الذّات، بأفعال صادرة عن رؤية. وبالإرادة الحرّة يُسيّر كلّ واحد نفسه. فالحريّة في الإنسان هي قدرة على النموّ والنّضج في الحقيقة وفي الخير. وهي تبلغ كمالها عندما تتوجّه شطر الله، سعادتنا * ت م ك ك ١٧٣١. .
إختارت القدّيسة مريم المجدليّة، الخاطئة بسبعة شياطين، عبادة الخطيئة. كانت زانية. متأثّرة بصوت الرّاعي الصّالح، إهتدت النّعجة الضّائعة وبحثت عن الله. لديها الإرادة للعمل بهذا البحث. إنّها دائماً الإرادة الّتي تُعطي للعمل قيمته. تقترح الّليتورجيّا، في عيد القدّيسة مريم المجدليّة، قراءات تسرد جيّداً هذا البحث عن الخير، أيّ هذه الإرادة الطّيبة المقصودة لتوجيه قلبه نحو الله وتنسيق أفعاله اليوميّة. سنلاحظ أنّ هذا البحث لا يصل دون نتيجة : " في الّليالي على مضجعي التمستُ من تحبّه نفسي التمسته فما وجدته. أنهضُ وأطوف في المدينة في الشّوارع وفي السّاحات ألتمس من تحبّه نفسي. إنّي التمسته فما وجدته. * نش ٣ ١-٤(نص عيد القدّيسة مريم المجدليّة). "عندما نجد المسيح، الّذي هو كلّ خير، والّذي بدونه لا يوجد خير، لا تتغيّر نظرة العالم فقط، بل يتحوّل العالم نفسه :" وإنّما مات المسيح عن الجميع لكي لا يحيا الأحياء لأنفسهم فيما بعد بل للّذي مات وقام لأجلهم. فنحن إذاً من الآن لا نعرف أحداً بحسب الجسد بل إن كنّا قد عرفنا المسيح فهو خليقة جديدة قد مضى القديم وها إنّ كلّ شيء قد تجدّد" * ٢ كو ٥ ١٤-١٧ (نص عيد القدّيسة مريم المجدليّة). . رغم ذلك لا يُمكن بناء هذا العالم الجديد دون إخوتي. عليه أن يُبنى مع جميع أشخاص الإرادة الطّيبة، أيّ مع جميع الّذين هم عطيشون منه، مع جميع الّذين
يتأمّلونه،مع جميع الّذين يباركونه، مع جميع الّذين يكنّون له روحهم * من مزمور ٦٢ (مزمور عيد القدّيسة مريم المجدليّة). . إذاً، ستأتي مريم المجدليّة في صباح ما، ستأتي إلينا نحن،الأشخاص المدعوّين للإرادة الطّيبة، لكي تُعلننا : " رأيتُ الرّبّ وهذا ما قال لي. * يو٢٠ ١٨ (إنجيل عيد القدّيسة مريم المجدليّة). "
إبقوا حيث أنتم
يُمكن أن يكون هذا الأمر من فرنسيس : إبقوا حيث أنتم متضاربة مع فصل نشيد الأناشيد الّذي قد ذُكر لتوّه : أنهضُ وأطوف في المدينة في الشّوارع وفي السّاحات. لا يوجد سبب لمقارنة هذين النّصّين لأنّ نشيد الأناشيد يذكر، بواسطة صورة، الجهد الضّروري، التّقدّم في الفضيلة، معرفة الخير والتّقشّف الّتي تجعل حرّاً من الحريّة الحقيقيّة. بالنّسبة ﻠ" إبقوا حيث أنتم" ، فهو يُحدّد لنا مكان العمل في كرمة الله. لنذكر في هذا الخصوص جملة حبرنا الأعظم بيوس الثّاني عشر :" يتواجد المؤمنون، وخاصّة العلمانيّن على الخط الأكثر تقدّماً من حياة الكنيسة". * مراجعة الموضع نفسه.
لقد أسّس فرنسيس رهبنة التّوبة سنة ١٢٢١. المقصود برجال ونساء، الّذين بعد أن تغذّوا بشهيّة من المأكولات الأرضيّة، وجدوا فرصة لولادة جديدة في ديانة فرنسيس، لكن دون الوصول مع ذلك للتّخلّي عن إتمام مسؤلياتهم تجاه العالم وأخذ طريق الفقر الكامل. يقول لنا فرنسيس، نحن، إخوته في الرّهبنة الفرنسيسكانيّة : " لا تستعجلوا لهجر بيوتكم. إبقوا حيث أنتم، وساقول لكم ما يجب فعله لخلاص روحكم"(ز١٦ ٩). لنذكر أنّ فرنسيس لا يقول لنا :" سأقول لكم ما يجب فعله لإصلاح العالم." لكنّ فرنسيس يعلم أنّ مع اهتداء كلّ فرد يبدأ التّحوّل الوحيد الحقيقي لمجتمعنا، البناء الحقيقي الوحيد لعالم أكثر أخويّاً وأكثر إنجيليّاً.
الماء المحوّلة إلى خمر : بناء عالم أخويّ وإنجيلي
إنّ بناء عالم أكثر أخويّ وأكثر إنجيليّ هو، على مثل المسيح، تحويل الماء إلى خمر في حياتنا اليوميّة. قبل حضور يسوع إلى عرس قانا، كان العرس موجوداً. الدّليل هو أنّ يسوع وأمّه دُعيا بالظّبط إلى العرس. لكنّ وجود يسوع يُغيّر السّياق العادي. عادة، لاتُحوّل الماء إلى خمر ؛ فضلاً عن ذلك، نبدأ دائماً بخدمة أفضل خمر، وعندما يشرب المدعوّين بشكل مقبول، نقدّم بعدها الخمر الأقلّ جودة. يُغيّريسوع
مجرى الأمور : يحوّ ل الماء إلى خمر، أيّ إنّ الّذي كان ببساطة مرويّ( الماء) أصبح شراباً جدير بتقديمه لمدعويّ العرس( الخمر). ليس هذا الإضطراب الوحيد الّذي يُتمّمه. في العادات البشريّة، نبدأ بإسكار النّاس بالخمر الجيّد لخداعهم بعدها بتقديمهم الخمر الأقلّ جودة. يُقدّم يسوع، هو،الأفضل في النّهاية. إنّ وجوده في العرس يعني جيّداً أنّه لا ينكر العالم بل يحوّله بفعله نحو الهدف الوحيد : الأعراس الإلهيّة. نحن مدعوون جيّداً لفعل نفس الشّيء لأنّ، بناء عالم أكثر أخويّ وأكثر إنجيلي، هو تحوّل الماء غلى خمر. هل يبدو لنا هذا التّحوّل منيعاً لتحقيقه؟ هل يبدو لنا غير ناجحاً ؟ يُشجّعنا حبرنا الأعظم يوحنا بولس الثّاني في رسالته البابويّة (الوضع الإجتماعي) في هذا المجال : حتّى في العيب والعابر، لن يضيع شيئاً ولن يُهدَرَ ممّا بإمكاننا وعلينا إنجازه من خلال الجهد المُتضامن الجماعي ومن خلال النّعمة الإلهيّة في وقت معيّن من التّاريخ لجعل حياة الأشخاص حياةً" أكثر بشريّة". يُرشد المجمع الفاتيكاني الثّاني في هذا المجال في مقطع جليّ من قانون : "سنجد لاحقاً قيم الكرامة البشريّة، الإتّحاد الأخويّ والحرّ، وجميع هذه الثّمار الجيّدة من طبيعتنا و صناعتنا، والّتي قد نشرناها على الأرض حسب وصيّة إلهنا وفي روحه القدّوس، سنجدها كلّها لاحقا، لكن مطهّرة من كلّ خطيئة، مشعّة، محوّلة، عندما يردّ المسيح لأبيه ملكوتاً أبديّاً وعالميّاً [...] . بشكل غامضٍ، إنّ الملكوت موجود قبلاً على هذه الأرض" * Gaudium et spes, n. 39. .
لكي يأتي ملكوت الله
تعي الكنيسة أنّ ما من تحقيق زمنيّ لا يتطابق مع ملكوت الله، لكن أنّ جميع هذه التّحقيقات لا تجعل إلاّ التّعبير و، بمعنى واحد باستباق مجد الملكوت الّذ يننتظره في نهاية القصّة، عندما يعود المسيح. لكنّ هذا الإنتظار لن يُبرّر أبداً أنّنا أهملنا أشخاصاً في حالتهم الواقعيّة الخاصّة وفي حياتهم الإجتماعيّة، الوطنيّة والعالميّة، لأنّ هذه الأخيرة- وخاصّة الآن- تُحدّد الأخرى. * Sollicitido Rei Socialis,§ 48 ,Editions Pierre TEQUI 1987. رسالة يوحنا بولس الثّاني البابويّة
مع هذا، ألم يتجسّد الله ! يجد العهد الجديد مضمونه في محيط إجتمتعي ومحدّد، كديكور منقش نجّار وكممثلّين، مالكين عامّين، مزارعين، بائعين، أحراراً بالبيع والشّراء، جنوداً، حاكمين وموظّفي دولة. كان من الضّروري إقرار مرسوم رسميّ لكيّ يذهب يوسف ومريم إلى المكان الّذي سيولد المسيح فيه ؛
لكن لنلاحظ أنّه لا يوجد في الإنجيل إبلاغاً لسلطة إمبراطوريّة في حدّ ذاتها. في نفس تسلسل الأفكار، عندما يتذمّريسوع من مصير الشّاب الثّريّ ، ليس لأنّ الشّاب هو ثريّاً، لكن لأنّه لم يعِ إستقبال نعمة الدّعوة إلى الفقر في قلبه. ونفس الشّيء، في الأمثلة، يملك مالك الكرمة الحقّ لتحديد بنفسه قيمة الرّاتب العادل الّذي سيدفعه لعمله دون الإلتماس لهذا بالأذن للتّصرّف هكذا لدى أيّ منظّمة كانت. عندما كتب بولي لفيلمون، طالباً منه إستقبال عبد هارب مع إحسان المسيح، فهو لا يُبدي لأيّ إبلاغ عن العبوديّة في حدّ ذاتها.
لا يتضمّن العهد الجديد تعليمات معيّنة بخصوص المشاكل الإجتماعيّة. و لا حتّى قاعدة حياتنا. ليس الإنجيل كتاب أخلاق إجتماعيّ : فهو لا يتكلّم عن الإقتصاد السّياسي، عن الدّيمقراطيّة، عن البروليتاريا، عن ملك الدّولة، ولا عن المستشفيات. لكنّه محيّ بنشاطيّة ثوريّة مميّزة، بقوّة قادرة على تحوّل البشر والمجتمعات، وبخلق عالم جديد، مطابق أخيراً لعدالة الله : مع جميع الأشخاص ذي الإرادة الطّيبة، إنّ إخوة القدّيس فرنسيس العلمانيّن مدعوّين لبناء عالم أكثر أخويّ وأكثر إنجيليّ، لكي يأتي ملكوت الله.
لقد قال يسوع كلّ ما لديه بخصوص الإقتصاد السّياسي عندما تحدّث عن الأساس أنّ أبانا في السّماوات يعي ما نحتاج إليه من طعام وهندام. إذ كلّ برنامج إصلاحات يجد نفسه متورّطاً من خلال وصيّة :
" فاطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه وهذا كلّه يُزاد لكم"(متى٦ ٣٣). لكي لا نكن متلهّفين. ولكي لا نشوّه كلمة الله كالآتي :" لنبني أوّلاً إقتصاداً ملائماً، وسيلحق ملكوت طوبى المُعلن من قبل المسيحيّي ن تلقائيّاً". * لقد تألّف مضمون هذا المقطع من مستخرجات مصحّحة من المنشورات فرنسيسيّة ١٩٦٤، Dieu m’a donné des frères…, Sidney F. WICKS? P.144 à150 ( Révélations et révolution) وأيضاً من كتاب تفكير وتأمّل مطبوع من قبل OCEP 1975, Sociologie divino humaine du Christ de l’évangile à travers saint Jean- le Christ au travail, Frère Raymond MOISDON.ofm ستكون إذاً المسيحيّة بالنّسبة لمجتمعات عديدة غير مسيحيّة،" وهماً شالاًّ"، مخصّصاً لتحسين الأوضاع البشريّة. إنّه" أفيون الشّعب"، يقول كارل ماركس. ليس تبشير الإنجيل أفيوناً بل، عند بلوغنا البشريّ، هو ديناميت روحيّة تنفجر من الأعلى وللأعلى.
لقد مات يسوع على الصّليب قائلاً : " أنا عطشان." كما في السّامريّة، يُعلن للبشر عن عطشه للأرواح الباحثة عن السّلام. كما في السّامريّة، يكشف للبشريّة نفسها عن عطشه الخاص للسّلام ويكشف أيضاً عن مصدره : "هو نفسه ". لذلك هو لا يتردّد لدعوتنا :" كما أرسلني الله هكذا أنا أرسلكم." أرسلكم للخلق من جديد شخصيّاً الصّداقة بين كلّ فرد ولله.
إتبع المسيح وستصبح أكثر إنساناً
تُحدّد لنا قاعدتنا أنّنا علينا إتباع المسيح لكي نُصبح أكثر إنساناً. أليس مدهشاً هذا الأمر بإتباع المسيح المتجسّد إنساناً لكي نُصبح نحن أنفسنا، أشخاصاً جديرين؟ بمعنى آخر، إذا أردتَ أن تُصبح أكثر إنساناً، إتبعْ أفعال الله المتجسّد إنساناً. لكن ما هي هذه الأفعال ؟ وقبل ذلك، ما هي أساسها ؟ * Desclée de Brouwer 1997, Quand l’Amour se fait homme, Stan Rougier,p43à47إنّ الأسطر الّتي تلي مستخرجة من الله محبّة. يكشف يسوع سرّه شيئاً فشيئاً في الإنجيل : يأتي من عالمٍ حيث المحبّة هي القانون الوحيد،الرّغبةّ الوحيدة، والحياة الوحيدة. هو المحبوب من الآب الّذي محبّته لا تنفد ودون حدود. ليست المحبّة حسرةً، شعوراً بسيطاً أو عابراً. المحبّة هي سرمديّة، هي مثاليّة ؛ هي البدء ونهاية كلّ شيء. في البدء كانت المحبّة. المحبّة، هي الإتّحاد مع الآب الأبديّ وابنه الأبديّ في انبهار الرّوح القدس. ستكون هذه الرّؤيا المحدّدة في غاية الكتمان. لن يقول يسوع :" أنا الشّخص الثّاني من الثّالوث." يدع تلاميذه يستخلصون نتائج أقواله، قيامته، وإرسال الرّوح القدس بعد" رحيله".
للدّخول في الملكوت حيث ستعمّ المحبّة، علينا محي من قلبنا ما قد يجرح المحبّة، وما يقتل الحبيب." أحب وستعيش" ،" أحب وستستطيع أن تعش". لن يبتعد يسوع أبداً عن هاتين الفكرتين الّلتين تسكنانه. لكنه سيقول وسيحي ما يعنيه الفعل يحب.
بالنّسبة ليسوع، ليست المحبّة إنتزاع زهرة الرّبيع والتّكرار:" أحبّكَ، قليلاً، كثيراً، بشوقٍ، حتّى الجنون... " بالنّسبة ليسوع، تتترجم المحبّة من خلال نوعيّة النّظرة. تحت الحبّة الأكثر شكلاً، يعرف الشّجرة الّتي ستلجأ إليها يوماً العصافير. "لو كنتُ تعي جمال روح بشريّة واحدة، فلا أشكّ أنّ من أجل خلاصه ستكون جاهزاً لمعاناة الموت مئة مرّة. لا يُقارن شيئاً لهذا الجمال"( كاترين دو سيينّا).
بالنّسبة ليسوع، ترتكز المحبّة بمشاركة خبزه مع الجائع، ثيابه مع العاري والحافي القدمين، منزله مع المتشرّد، سمعته مع الإنسان المفضوح، عمله مع من هو عاطلاً عن العمل. المحبّة، هي تمضية بعد ظهر مع مريض أو سجين. هو اقتراح صداقته لمفتّش ضرائب، رجلٍ غير شريف ومكروه، بخطر خسارة اعتماده أمام عدد كبير. بالنّسبة ليسوع، المحبّة هي استقبال في وسط مأدبة رسميّة، إمراةً خاطئة تُحرج أفعالها بخطورة سمعة سيّد المنزل. هو تقبيل الأولاد الصّاخبون والمُتعبون بروعة. بالنّسبة ليسوع، المحبّة هي معاشرة العدوّ المحتلّ كما المقاوم، المثقّف كاليدويّ، الكافر كالمفكّر. سيكون الأكثر مريعاً الأكثر محبوباً، ليس لأنّه فظيعاً بل حتّى لا يُصبح هكذا. كما الولد الأكثر مريضاً سيكون دائماً الأكثر معالجاً، حتّى يشفي. لكي لا نُخطئ. ليس ليسوع أيّة صلة مع إنحرافات الأطباع، ولا حتّى الحريّة الجنسيّة، ولا حتّى السّلطة المتعلّقة بروما. إذا كانت الخطيئة تنفره، فإنّ أيّ تغيير من قبل الخاطئ تبعث فيه فرحاً كبيراً.
بالنّسبة ليسوع، المحبّة هي إعاقة سفر من أجل جريح مجهول، أخذه إلى المستشفى والقول :" أرسلوا لي الفاتورة." بالنّسبة ليسوع، المحبّة هي إستقبال إبن هارب ومنحلّ بدموع الفرح، دون كلام تأنيب. هو توكيل مهمّة رسول لسامريّة الّتي حياتها ليست بالمثاليّة. بالنّسبة ليسوع، المحبّة هي السّماح لجلاّديه... ليس بعد عشرين سنة، بل في الّلحظة نفسها، تحت العذاب :" يا أبتِ اغفر لهم لأنّهم لا يدرون ما يعملون !" بالنّسبة ليسوع، المحبّة هو الكون لأمثاله، مثل ما تكون الشّمس والماء للنّبات. لايفرضان النّور والمطرأي شيء على النّبات. هما يسمحان لها بالوجود، "حسب جنسها".
من أين استمدّ يسوع سرّ تلك المحبّة هذه ؟ من هو هذا الرّجل الّذي يُحبّ الأشخاص الّذين لا يجرؤ أحداً على التّقرّب منهم ؟ إنّ الجواب على هذه الأسئلة معطاة من قبل يسوع نفسه : " فكونوا كاملين كما أنّ أباكم السّماويّ هو كامل. لتكونوا بني أبيكم الّذي في السّماوات لأنّه يطلع شمسه على الأشرار والصّالحين ويُمطر على الأبرار والظّالمين"(متى٥ ٤٨ و٥ ٤٥).
في روح مسيحيّ للخدمة
" أين هابيل أخوك ؟"(تك٤ ٩) يسأل الله كلّ واحد منّا. بعد هذا السّؤال، من السّهل التّخيّل أنّ الجواب الصّحيح ليس فعلاً ما قاله قاين : "لا أعلم.ألعلّي حارس لأخي ؟"ممارسة مسؤولياته الخاصّة
بجدارة في حياتنا العمليّة، الإجتماعيّة، السّياسيّة العائليّة،... هو الإجابة على سؤال الله :" أين أخيك؟" من
خلال أقوال وأفعال تُعتبر" المستفيد النّهائي" للخدمة المردودة : أخي، الإبن من نفس الآب. في المقطع السّابق، إكتشفنا عدّة طرق لتصريف الفعل يُحبّ. منسوب لمسؤولياتنا الخاصّة، هو الإرادة بإتّباع المسيح :
"إن كان أحد يخدمني فليتبعني وحيث أكون أنا فهناك يكون خادمي"(يو١٢ ٢٦). لا يعرض هنا يسوع ما يُمكن أن لا يُعتبر كأسلوب بسيط أدبيّ، لكنّ يسوع يُعطينا طريقة إستعمال الخدمة المسيحيّة الّتي تقلب طبقة القيم المقبولة تقليديّاً. بالفعل، يُمكن أن تُحدث بسهولة ممارسة مسؤولياتنا الخاصّة بجدارة، للّذي مسؤولياته أن يكون موظّفاً، أوموظّفاً إداريّاً، أو رئيس خدمة، أو رئيس فريق، أو الرّفيق المساعد من عامل يدويّ (إذ إننّا جميعاً مسؤولين ‘عن شخص ما)،شعور تفوّق يقودنا للإعتبار أنّ العلاقة الحقيقيّة تكون على الشّكل التّالي :" أنا آمر؛ أنتَ تُطيع." بالفعل طبعاً، لا يمحو روح الخدمة المسيحي الفرد الّذي هو مكلّف بمسؤولية إتّخاذ القرارات الّتي لا يُمكن تجنّبها وإتمامها. لكن عليه القيام بذلك في روح الخدمة المسيحي. "فإنّه من أكبر المتّكئ أم الّذي يخدم ؟ أليس المتّكئ فأنا في وسطكم كالّذي يخدم ! "(لو٢٢ ٢٧). مستنيرين عن ما قيل سابقاً، أليس بإمكاننا أيضاً التّرجمة : إذاً ! أنا في وسطكم كما الّذي يُحبّ !...
البند١٥.
من خلال الشّهادة بحياتنا الخاصّة
أليس مدهشاً أنّ البند١٥ من قاعدتنا يُميّز بين الشّهادة عن حياتنا الخاصّة والمبادرات الشجّاعة، كما لو كانت الثّانية غير ممثّلة عن الأولى ! إذا كان التّمييز، فأليس للإشارة أنّه يوجد، في الشّهادة عن حيلتنا الخاصّة، شيئاً ما يشمل، وحتّى يتجاوز، الأعمال الّتي بإمكانها أن تُتَمّم في الزّمن الّذي
مُنِحَ لنا للعيش ؟ في أولى صفحات هذا الفصل، قرأنا نصّاً يشرح بوضوح هذا الفرق : كلّما قلتم، كلّما فعلتم، فليكن دائماً باسم سيّنا يسوع المسيح، مقدّمين له شكرنا لله الآب. الدّعوة الأولى والأساسيّة الّتي يقدّمها الآب في يسوع المسيح بواسطة الرّوح القدس لكلّ علماني هي الدّعوة إلى القداسة، أيّ إلى الكمال والإحسان. إنّ القدّيس هوالشّاهد الأكثر جليّاً من الكرامة المخوّلة لتلميذ يسوع.
إذاً هل علينا الشّهادة بتحريضنا لثورات ؟ هل علينا الفعل بشكل أن نستولي على السّلطة الزّمنيّة للتّمكّن من تنظيم (والتّمكن من فرض) ما هو خير وعادل ؟
إنّ العهد الجديد مركّز بكامله حول الرّؤيا. ليس لديه شيئاً ليعلّمنا إيّاه بخصوص الثّورة. عندما يُرسل المسيح روحه على الكنيسة الّتي وُلدت، فهو ليس بهدف تمهيد درب للوصول إلى الثّورة. لكنّ مجيء قدّيس قادر على إعطاء من جديد معنى لحياة البشر يساوي مئة معاهدة بابويّة، مع أنّ المعاهدات البابويّة هي أشياءً ضروريّة. وسرّ القوّة الممارسة من الرّوح القدس، هو أنّ يعمل من خلال تحوّل بطيء، وليس من خلال إصلاح قاس. هذا التّحوّل هو ثمار النّعمّة، فالإصلاحات القاسية تعود أحياناً لكي تُطعّم زرجونة جديدة على كرمة دون نسغ. ليس إذاً من خلال الثّورة ضدّ الّذين يحكمون تُصبح الدّول كبيرة وحرّة، بل من خلال سلوك المدنيّين القدّيس نحصل على مساعدة الله. إذ إنّه هنا حقّاً قانون ملكوت المسيح : لا ثورات، فهي لا تخلّص ؛ بل تطهير السّلطة الملقّحة بقداستنا.
فبدورنا الإجابة على نداء الله بالذّهاب للعمل في كرمته. وبدورنا أن نكون قدّيسين. بدوري، أنا شخصّياً، اليوم وحتّى مماتي، أن أكون قدّيساً.
من خلال مبادرات شجاعة
تجد الكنيسة إذاً حيويّتها العميقة في قوّة الهبات الّذي يمنحها الرّوح القدس. لا يُمكن لأيّ تشريع، حتّى ولو كان ديمقراطيّاً، أن يقدّم أيّ شيء للكنيسة في خصوص القداسة. مثل أورشليم السّماويّة في رؤيا القديس يوحنا، تنزل الكنيسة من السّماء. هي هبة من الله. هي جسد المسيح. إذاً كون المخلوق يختفي حقّاً في الخالق، فالخالق هو الّذي يُدير، وهو الّلانهائي.
نحن محثوثون للشّهادة بحياتنا الخاصّة (القدّيسة)، مطعّمين بأنّنا من الأعلى وللأعلى، لكن أيضاً للشّهادة من خلال مبادرات شجاعة. لكن لماذا تتطلّب الشّجاعة للتّرويج بالعدل ؟
من المهمّ التّذكير أصل كلمة شجاعة في الّلغة الفرنسيّة لمساعدتنا للكشف على ما هوالمقصود. إنّ كلمة شجاعة مشتقّة قديماً من كلمة قلب. إنّ الشّجاعة هي قوّة القلب هذه، قوّة الرّوح الّتي تتحدّى الخطر، الّتي تحتمل العذاب بصبر. يعني هذا البند ١٥من قاعدتنا، المستخرج مباشرة من مرسوم تبشير العلمانيّن ، يعني جيّداً أنّ المشيئة بالكون حاضراً لتنفيذ العدل، خصوصاً في مجال الحياة العامّة، يتطلّب شجاعة. إنّ وقائع الحدث هي للأسف بليغة جدّاً حول عدم احترام الفضيلة الأخلاقيّة المسمّاة العدل. يطلب الجميع العدل، لحقّه الخاص، ناسياً أحياناً جيّداً أنّ العدل هو احترام قواعد الواجب. إنّ الأخذ بمبادرات لتنفيذ العدل هو الذّهاب" لمجابهة المشاكل". يحذّرنا الله بنفسه ممّا الّذي ينتظرنا :" إن كان العالم يُبغظكم فاعلموا أنّه قد قد أبغضني قبلكم. لو كنتم من العالم لكان العالم يُحبّ ما هو له لكن لأنّكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لأجل هذا يُبغظكم العالم. أُذكروا الكلام الّذي قلته لكم أن ليس عبد أعظم من سيّده. إن كانوا اضطهدوني فسيضطهدونكم "(يو١٥ ١٨-٢١).
تنفيذ العدل
الويل لكم أيّها الفرّيسيّون فإنّكم تعشّرون النّعنع والسّذاب وسائر البقول وتتعدّون العدل ومحبّة الله وكان ينبغي أن تعملوا هذه و لا تتركوا تلك(لو١١ ٤٢).
فاذهبوا واعلموا ما هو إنّي أريد رحمة لا ذبيحة(متى٩ ١٣)، معرفة الله أكثر من المحرقات (هو٦ ٦). لا يردّ الله إذاً العدل البشريّ، الّذي بإمكاننا ترجمته باحترام قواعد الواجب :" هذا ما كان يجب تطبيقه." هذه القواعد الصّغيرة مهمّة للغاية لأنّها، بفضل عدل الأسياد، يُصبح الخدم والأجراء عادلين. في عاداتنا اليوميّة الصّغيرة، أُعطيَ لنا الخيار بأن نكون إبن الآب"، أو" إبن الشّيطان"، "معلّماً" أو "مسبّ خراب" لإخوتنا. لكنّ الله يُصرّ على الحدث أنّه لا يجب التّخلي عن الباقي. بإمكاننا ترجمة" البقيّة" بتنفيذ العدل، خصوصاً في مجال الحياة العامّة الّتي
تدعونا إليها قاعدتنا، علماً أنّ على هذه البقيّة أن تكون مطعّمة بالرّحمة :" إنّي أًُريد الرّحمة لا ذبيحة."
يؤلّف حبرنا الأعظم يوحنا بولس الثّاني، في رسالته ١ كانون الثّاني٢..٢ للإحتفال بيوم السّلام العالمي، يؤلّف بطريقة ظاهرة هذه الرّحمة الّتي عليها ضروريّاً مرافقة العدل : لا يوجد سلام بلا عدل ؛ لا يوجد عدل دون سماح. لننقل هنا، كتعليق على هذا المضمون، تنفيذ العدل، بضع أسطر من هذه الرّسالة، المعروض تحت شكل شهادة مؤثّرة.
السّلام، عمل المحبّة والعدل : إنّ الّذي حدث مؤخّراً * كان يوم السّلام العالمي في ١ كانون الثّاني٢٠٠٢ محتفلاً على خلفيّة أحداث ١١أيلول٢٠٠١ المأساويّة. في ذاك اليوم ارتُكِبَ جرماً في غاية الخطورة : في غضون بضع دقائق، إغتيل ألآف الأشخاص البريئة، من مختلف المصادر العرقيّة(أولى أسطر الرّسالة البابويّة). ،... قد دفعني لإسترجاع فكرة تعالت أحياناً من أعمق قلبي لذكريات أحداث تاريخيّة طبعت حياتي، خصوصاً في حداثة أعوامي الأولى. لقد أثارت فيّ دوماً ألآم الشّعب والأشخاص الّتي لا توصف، وبينهم الكثير من أصدقائي وأفراداً أعرفها، المسبّبة من الكليانيّة النّازيّة والشّيوعيّة، أثارت فيّ أسئلة وقوّت صلاتي. كثيراً أحياناً، تأخّرتُ للتّفكير على السّؤال : ما هو الطّريق الّذي يؤدّي لإصلاح كامل للنّظام الأخلاقي والإجتماعي الّذي قد خُرِقَ ؟ فتوصّلتُ بعد تفكير إلى الإعتقاد وبعد استشارتي إلى الرّؤيا الإنجيليّة هو أنّنا لا نُصلح نظاماً مدمّراً كاملاً إلاّ بتوفيق العدل والسّماح بينهما. إنّ ركائز سلام حقيقيّ هما العدل وشكل المحبّة الخاص الّذي هو السّماح.
لكن كيف التّحدّث الآن، في الظّروف الحاليّة، عن العدل وفي نفس الوقت عن السّماح كمصدرين وشرطين للسّلام ؟ جوابي هو التّالي : بإمكاننا وعلينا التّحدّث، رغم الصّعوبات الّتي تتضمّن هذا الموضوع، لآنّ، من بين المواضيع الأخرى، لدينا ميل للتّفكير بالعدل وبالسّماح في معاني متناقضة. لكن يتعارض السّماح على الحقد والإنتقام، وليس على العدل.
السّلام الحقيقي هو في الحقيقة "عمل العدل"(اش٣٢ ١٧). كما قد أقرّه مجمع الفاتيكان الثّاني، إنّ السّلام "هو ثمر أمر قد أُنشئ في المجتمع البشري من قبل مؤسّسه الإلهي، وعليه أن يُقاد لتحقّق من قبل البشر الطّامحين دوماً لعدل أكثر كمالاً" . منذ أكثر من خمسة عشر قرناً، يصوت تعليم (Constitution pastorale Gaudium et spes, n. 78) الّذي قد ذكّرنا أنّ السّلام الّذي علينا تصويبه مع تعاون الجميع يتضمّن في Augustin d'Hippon . tranquillitas ordinis في سكينة النّظام (cf. De Civitate Dei, 19, 13)
السّلام الحقيقي هو إذاً ثمار العدل، فضيلة أخلاقيّة وضمان شرعي يسهر على الإحترام الكامل للحقوق والواجبات، وعلى التّوزيع العادل للأرباح والمسؤوليات. لكن بما أنّ العدل البشري هو دائماً ضعيفاً وغير كاملاً، معروضاً لحدود الأشخاص والمجموعات ولأنانيّتهم، عليه أن يُمارَس وبمعنى آخر أن يكون مكمّلاً بالسّماح الّذي يشفي الجروحات ويُصلح العلاقات البشريّة المشوشّة بعمق. هذا يشمل أيضاً الضّغوطات الّتي تخصّ الأشخاص الّتي مسؤولياتها هي أكثر عموماً وحتّى عالميّة. لا يتعارض السّماح بأيّ طريقة للعدل، إذ إنّه لا يتضمّن تأجيلاً للضّرورات الشّرعيّة بإصلاح النّظام المضرّر. يهدف السّماح بالأحرى كمال العدل الّذي يجرّ لطمأنيّة النّظام، فهذا الأخير هو أكثر من انقطاع ضعيف وزمنيّ للضّغينات : إنّه شفاء الجروحات بعمق الّتي تلوّث الأرواح. بالنّسبة لهذا الشّفاء، فإنّ العدل والسّماح هما كليهما مهمّين.
التّعاهد في خيارات متطابقة مع إيماننا
لنقل بصوت عالٍ، لا ثورة ول عصيان. بل مبادرات شجاعة. في عالم بتطوير متجدّد، بإمكان التّدابير المعتمدة يوماً لتنفيذ العدل أن تظهر غير متطابقة في اليوم التّالي بسبب تطوّر العصور و من هنا، تُغيّر أشكال الحياة. هناك أحياناً ضرورة للإختراع، أو أكثر بساطة للإختراع مجدّداً، أساليب جديدة، لإيقاظ تدابير جديدةن إمضاء معاهدات جديدة. لكن علينا الإنتباه من أخطار الإنغماس في العالم ! لتجنّب العقبات، لنأخذ مثلاً فرنسيس. فهو ليس غريباً عن هموم عصره. على العكس. يُدركُ فرنسيس هذه الهموم ويتحمّلها * Desclée De Brouwer 1981,François d’Assise, Le retour à L’Evangile, Eloi Leclerc,p.125 à 128 إنّ تكملة هذا§ مؤلّف من مستخرجات . مع هذا، فهو لا يستوحي من إرادة إصلاح منعكسة. من هنا دون شكّ مصدر الوضوح هذا الخاصّ فيه. " إنّ لإرادة مميّزة ورزينة، يُلاحظ ب.ليبرت، لها دوماً نتائج كإثارة الحياة، وجعلها أقلّ طهارة. إنّ الإرادة بالوصول، بأيّ ثمن، بالإصلاح، بالمعارضة، بمواجهة أيّ كان، هذه الإرادة متجرّدة نادراً من الأنانيّة والكبرياء، العنف وقساوة القلب ؛ لهذا السّبب هي تضعف وتلوّث الحياة الّتي تدّعي
الصّراع من أجلها. وبالعكس، حيث باستطاعة الحياة الحقيقيّة والمتدفّقة البقاء كاملة كما هي، حيث بإمكانها أن تثبُتَ، أن تبنيَ، أن تبارك وأن تعطي، عندها هي تنعمُ في تلك الّلحظة بحريّة مذهلة * P. LIPPERT: La Bonté, Paris, 1946, p.115- 116. ..."
علينا دوماً الإختيار بين مجتمع هدفه حكم الكائنات وإخضاعها، وبين مجتمع يقترح قبل كلّ شيء خدمة الأفراد وإنمائها. النّوع الأوّل من المجتمع يرقّق الأفراد لجعاهم أدوات سيسة أو عقيدة ؛ أمّا المجتمع الثّاني يرى في كلّ فرد قيمةً مميّزة لترفّعها : يُمثّل كلّ كائن بشري هنا حياة مميّزة، ويحمل فيها قانون النّموّ الخاص به. يختار فرنسيس نوع المجتمع الثّاني، الوحيد في الحقيقة الّذي يتناسب مع أخويّة. على هذا الصّعيد كما على غيره، هو منفتح لطموحات عصره العميقة.
لم يكفّ فرنسيس بمطالبة حريّة العيش حسب الإنجيل المقدّس، تابعين إلهام الله، لنفسه ولإخوته. هو يحترمها في كلّ واحد منهم. بالنّسبة له، ليس الموضوع بفرض نموذجاً ولا بالحكم، بل بالسّماح للأخ الأكثر تواضعاً بالسّعي لمغامرة الملكوت، بالإنفتاح بحريّة لروح الله والسّياق إليه.
" إنّه الرّوح القدسن يقول فرنسيس، الّذي هو وزير الرّهبنة العامّ "(٢ش ١٩٣). " فليرغبوا في أن يكون فيهم روح الرّبّ وعمله المقدّس"(٢ق ١٠ ٩).
ومن خلال تصرّف فرنسيس هذا، لدينا مثالاً واضحاً خصوصاً في الرّسالة الّتي وجّهها إلى الأخ ليون. لقد كشف فيها بفرح عن نقطة مراعاة. هذا ما كتب له فرنسيس : " إلى الأخ ليون، تحيّة وسلام من أخيكَ فرنسيس. أقول لكَ ذلكَ، يا بنيّ، مثل أمّ، لأنّ جميع الأقوال الّتي تبادلناها في الطّريق، أرتّبها وأنصحكَ إيّاها... أيّة وسيلة وجدّتها هي المثلى لإرضاء الرّبّ الإله، ولإقتفاء آثاره، وفقرهن فاتبعها ببركة الرّبّ الإله، وبإذني... "
البند١٦.
القديس يوسف، الحرفيّ، حامي عمل العالم
إنّ الحرفي الّذي كان القدّيس يوسف، أب ابن الله البتولي، مثال العمل، الإخلاص والوفاء، كان مقدّراً لكي يُصبحَ حامي عمل العالم * لم يكن عرفان الجميل لعظمة يوسف معتبراً بشكل واضح في الكنيسة إلاّ شيئاً فشيئاً. لا يتأرّخ إحتفال يعيد القدّيس يوسف الكبير،في ١٩آذار، إلاّ من القرن الخامس عشر. نعترف فيه اليوم شعاراً حامياً للكنيسة. يعود إعلان يوسف كشفيع للكنيسة العالميّة إلى٨كانون الأوّل١٨٧٠. ." أليس ابن النّجّار؟" قيل عن المخلّص. يظهر لنا يوسف، المعروف في النّاصريّة كزوج مريم وأب يسوع * لقد لاحظ عدّة علماء بالّلاهوت، ومنهم سواريز، أنّ القدّيس يوسف يحتلّ محلاّ كاملاً في سجلاّت القداسة: بينما لعب القدّيسيّون الآخرون دوراً خدمة الكنيسة، جسد المسيح الرّوحاني، يوسف، هو، مأمور، مثل مريم، حتّى لرتية ابن الله في سرّ تجسّده. ،رجلاً صالحاً، حكيماً وحذراً، صبوراً وطيّباً، دون مصادر أخرى إلاّ عمله، يوسف، هارب العظمة هو، يظهر كمثال العامل التّام حسب ودّ الله. إنّ سير الطّفولة من الإنجيل الأوّل مركّزة على شخصيّة يوسف الّذي، في العائلة المقدّسة، لديه دوماً دوراً ناشطاً. يُبدي يوسف باستمرار طاعةً صامتةً كاملةً لمشيئة الله، وذلك في ليلة الإيمان، إذ إنّ الله لا يتمّ أيّة أعجوبة تكون مخصّصة ببساطة لتسهيله المهمّة. ويُطيع يوسف دون أن يقول شيئاً ؛ لم تُحفَظ أيّ كلمة من يوسف ؛ هو يُطيع الله دون طرح أسئلة؛ لا أحد أكثر منه (باستثناء مريم العذراء) انقاد بطاعة من خلال الرّوح القدس. * P. André Feuillet, P.S. Sulp., Le Sauveur Messianique Et Sa Mère Dans Les Récits De L’ Enfance De Saint Matthieu Et De Saint Luc, Divinitas de Janvier 1990, p. 150.
سنطلب إذاً من القدّيس يوسف بأن يرافقنا في التّعاليق المختصرة التّالية.
العمل هو هبة
إنّ علامة ألفة الإنسان مع الله، هو أنّ الله جعله في جنّة عدن. وجعله في جنّة عدن" ليفلحها ويحرسها"(تك٢ ١٥). في الأساس، إنّ العمل هو هبّة يُقدّمه الله الإنسان. يدعونا الله بإلحاح للقبول به : "إمضوا أنتم أيضاً إلى كرمي " .إذا كانت هذه الدّعوة تتخطّى بسعة إطار العمل الإجتماعي، فالعمل الإنساني كان في عداد جواب الإنسان لله. إذاً إنّ العمل هو أيضاً هبة، تقدمة، يردّها الإنسان لله. إنّه معنى الهبة الثّاني :" ينال العلمانيّون، بفعل تكريسهم للمسيح ومسحة الرّوح القدس، الدّعوة العجيبة والوسائل
الّتي تُتيح للرّوح القدس أن يُثمر فيهم ثماراً متزايدة على الدّوام. ذلك بأنّ جميع نشاطاتهم وصلواتهم ومشاريعهم الرّسوليّة وحياتهم الزّوجيّة والعيليّة، وأعمالهم اليوميّة، وتسلياتهم العقليّة والجسديّة، إذا هم عاشوها بروح الله، بل حتّى مِحَن الحياة إذا تحمّلوها بطول أناة، كلّ هذا يستحيل″ قرابين روحيّة مرضية لله بيسوع المسيح″(١بط٢ ٥).
وهذه القرابين تنضمّ، في إقامة الإفخارستيّا، إلى قربان جسد الرّبّ لتُرفَع بكلّ تقوى إلى الآب. على هذا النحو، يكرّس العلمانيّون لله العالم بالذّاتن مؤدّين لله في كلّ مكان، بقداسة سيرتهم، فعل عبادة * ت م ك ك ٩٠١. ".
مثل القدّيس يوسف، لنطبع عملنا بالإيمان، بالأمل والإحسان لكي نحصل على هذا التّحوّل الإلهي للأعمال العاديّة. سيُجنّبنا هذا الرّوح الفوطبيعي الإستياء والمزاج السّيء. على مثال الآب القدّيس، لتنضمّ صلاتنا لعملنا لكي يُصبح عملنا صلاة.
العمل هو وسيلة للمشاركة في الخلق
العمل الإنساني يتأتّى مباشرةً من الأشخاص المخلوقين على صورة الله، والمدعوّين إلى أن يُمدّدوا، بعضهم مع ببعض، عمل الخلق والتّسلّط على الأرض. هذا ما يُشير إليه بقوّة سفر التّكوين :" خلق الله الإنسان على صورته[...]، ذكراً وانثى خلقهما. باركهم الله وقال لهم : "انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها"( تك١ ٢٧-٢٨). إذاً العمل هو واجب :
" إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل"(٢تس٣ ١٠) يقول لنا الرّسول. سيزيد فرنسيس بنفسه في وصيّته : " ... أريد أن أعمل؛ وأريد، بحزم، أن يعمل جميع الإخوة الآخرين، عملاً شريفاً. وعلى الّذين لا يُحسنون عملاً أن يتعلّموا، لا طمعاً بالحصول على جزاء العمل، بل، من أجلإعطاء المثل الصّالح، وطرد البطالة"(و ف ٢٠-٢١). نرى من هنا إذاً أنّه لا يجب التّقليل مفهوم العمل على حدّ حدود العمل المهني المكافأ. يُنجَزُ العمل أيضاً على مثال الأمّ الّتي تعطيه لأولادها باهتمامها بنشاط بأعمال المنزل ؛ يُنجزُ العمل أيضاً لطرد الفراغ عند المراهق الّذي يساعد أهله أو أصدقائه في شتّى مهمّات الحياة اليوميّة؛ يُنجزُ العمل أيضاً لإعطاء المثال الجيّد ولطرد الفراغ عند هذا الرّجل المتأثّر بالبطالة الإقتصاديّة * ليس الموضوع هنا معالجة مشكلة البطالة الإقتصاديّة المخيفة. ببساطة نكتة معيشة لإظهار ما هي الأفعال المستخدمة لمعالجة ضد بعض أضرار البطالة الإقتصاديّة الممكنة (وليس ضدّ البطالة بحدّ ذاتها في الفترة الأولى). في عدّة ضواحي كبيرة، بعض العائلات متأثّرة بالبطالة الإقتصاديّة منذ عدّة أجيال، أيّ أنّها لا تعمل" خلفاً عن سلف". إنّ الإنعكاسات الّتي يُحدثها أب عاطل في البيت على الأجيال الجديدة هي خطيرة. لقد وضعت منظّمات مشاغل "لإجبار" أب العائلة بالخروج من منزله منذ الصّباح لكي يتعلّم مبادئ عمل (ولكن ربّما في النّهاية لن يتمكّن من ممارسته لعدّة أسباب أخرى، لكن ليس هذا الهدف) . إنّ الحدث في الحقيقة يُجبر أب العائلة بالنّوم باكراً. لن يعود بإمكانه مشاهدة التّلفاز وشرب الكحول حتّى السّاعة الثّانية بعد منتصف الّليل مع جميع أولاده الّذين لم يناموا وهم هنا، ناعسون، أمام التّلفاز. إذا أعطى أب العائلة المثال، النّوم في ساعة منصفة، بإمكانه الطّلب من أولاده النّوم في ساعة باكرة. عندها، سيكون لهم حياة أكثر توازناً، وبالتّالي سيمتلكون مؤهّلات جديدة في حياتهم المستقبليّة. ولاحقاً، باستطاعتهم الإستفادة من مثال أبيهم كمرجع في حياتهم العائليّة والعمليّة.
. العمل يكرّم مواهب الله والوزنات المعطاة. * ت م ك ك٢٤٢٧. ليس العمل مشقّة، ولكنه إسهام الرّجل والمرأة مع الله في إكمال الخليقة المرئيّة * تم ك ك ٣٧٨. . يُعطينا نجّار النّاصرة، بتحويله جذوع الأشجار إلى بنيات أو إلى أثاث، المثال النّموذجي لسلطة الإنسان على الخلق. لا نجد، في العالم المخلوق، بنيات جاهزة، على سبيل المثال. لكن الخضوع الذّكيّ والدّقيق ممّا تقدّمه لنا الطّبيعة( الأشجار الّتي نقتلعها والنّبتات الّتي نزرعها من جديد لإبدالها بالأشجار المقلوعة) تجعل العمل الإنساني يُشارك في الخلق. لا نعي دوماً لكرامة العمل الإنساني، بأهمّيته في المشاركة . مع هذا،تُعلن الّليترجيّا هذه الكرامة : " يا ربّ، لقد خلقتَ الإنسان على صورتكَ وأوصيتَ له العالم، حتّى بخدمتكَ، أنتَ، خالقه، يسيطر على الخليقة * . IVصلاة الإفخارستيّا ." تبرز كرامة العمل الإنساني أيضاً بجلاء في طقس تحضير الخيرات : " مبارك، أنتَ، يا ربّ الكون، انتَ الّذي يُعطينا هذا الخبز، ثمار الأرض وعمل الإنسان،[...] أنتَ الّذي يُعطينا هذا الخمر، ثمار الكرمة وعمل الإنسان...
إنّ العمل هو وسيلة للمشاركة في الفداء
يُمكن أن يمكن العمل فدائيّاً. باحتماله عناء العمل" بعرق جبينه"(تك٣ ١-١٩) بالإتّحاد مع يسوع، عامل النّاصرة والمصلوب على الجلجلة، يُساهم الإنسان بوجه من الوجوه مع ابن الله في عمله الفدائيّ. ويتراءى تلميذاً للمسيح في حمل صليبه، كلّ يوم، في النّشاط الّذي دُعيَ للقيام به. يُمكن أن يكون العمل وسيلة للقداسة وإنعاشاً للأمور الأرضيّة في روح المسيح. * من ت م ك ك٢٤٢٧و١٦٠٩.
لقد علّم وجود يسوع في مشغل النّاصرة للقدّيس يوسف ثمن السّاعات القاسية، والعمل المُتعب المقبول كترميم لوقاحة الإنسان في إهماله قوانين الله. عامل مع الله الخالق، أخ يسوع في العمل الّذي كان عامله،
مشترك معه في خلاص العالم، لن يجتذب القدّيس يوسف أبداً العيون وصلوات عصرنا. لهذا السّبب، وضعت الكنيسة، مستوحاة من التّقليد الّذي يُعمّد سابقاً العديد من الأعياد الوثنيّة لوهبهم مضموناً مسيحيّاً جديداً، وضعت عيد العمل المدنيّ تحت رعاية القدّيس يوسف القويّة. عاملاً كلّ حياته، من أفضل منهن شكر الله الآب في عمله كلّ يوم ؟ هذا هو العامل المتواضع الّذي اختاره الله لكي يسهر على طفولة الكلمة المتجسّد الّذي جاء لكي يُخلّص العالم من خلال تواضع الصّليب.
إنّ العمل هو خدمة المجموعة الإنسانيّة
يمارس الشّخص ويُتمّم بالعمل جزءاً من الإمكانات الموجودة في طبيعته. وقيمة العمل الأساسيّة مرتبطة بالإنسان نفسه الّذي هو صاحب العمل وغايته. لأنّ العمل هو لأجل الإنسان وليس الإنسان من أجل العمل * ت م ك ك ٢٤٢٨. .
تتمّ هذه المشاركة أوّلاً باضطلاع الإنسان بمهامّ القطاعات الّتي هو مسؤول عنها شخصيّاً. فهو باعتنائه بتربية أسرته، وبتقيّده بالضّمير في عمله، يُشارك في خير الآخرين والمجتمع. * ت م ك ك ١٩١٤.
عناية، تطبيق، مثابرة، سكون، تضحية، هذه هي صفات العامل الصّالح. إنّ همّ تتمّة رغبة الآب الّذي قال : "ستأكل خبزكَ بعرق جبينكَ" يُحي روح يوسف العامل. يقول الرّسول عندما نملك الطّعام والملبس، فلنكتفي ؛ فليكن لدينا ما هو ضروريّ، دون الطّموح إلى الزّيادة. فلنتعلّم من القدّيس نجّار النّاصرة، أن نواجه العمل، ليس كعبوديّة، بل كميزة عظمة ونبالة. عظمة ونبالة لروحنا، إذ إنّ العمل يُطهّر الإنسان. عظمة ونبالة لعائلتنا الخاصّة، إذ إنّ العمل يسمح بإظهار المثال الصّالح لأولادنا وتأمين وجودهم. عظمة ونبالة للمجموعة الإنسانيّة، إذ إنّ العمل يُساعد في بناء المجتمع وسعادة الجميع.
أسئلة
أسئلة لفحص المعارف
١) ليست كلمة الله بالضّرورة سهلة للفهم. بإمكان ذكائنا أن ينحصر على جانب أو عن آخر ؛ وبإمكان الأنا أن لا يدعنا نفهم أهميّة الرّسالة الموجّهة إلينا. ما هي المعاني المختلفة الموجودة في كلمة الله، الّتي عندما نجدها، تسمح لنا بالفهم، بكلّ قوّة الرّوح، كلمة الله هذه ؟ هل بإمكاني الإختيار، بين المراجع الإنجيليّة المطروحة في الصّفحة التّالية، نصّاً والبحث فيه عن معاني الكلمة المختلفة ؟
٢) في سيرة توماس دو شيلانو حول سفر فرنسيس إلى سوريا، هل باستطاعتي تذكير النّقاط البارزة لتعليل فرنسيس وتصرّفه ؟
٣) كان لإرميا المهمّة الصّعبة لإعلان كلمة الله لإخوته. ما هي جملة التّعريف هذه الّتي تعود باستمرار، في فم النّبي، كلازمة قبل كلّ واحدة من تدخّلاته ؟
أسئلة تعمّق
١) يبدأ طقس تحضير الخيرات، الّذي يفتح الّليترجيّا الإفخارستيّ بهذه الكلمات : "مبارك، أنتَ، يا ربّ الكون، أنتَ الّذي يُعطينا هذا الخبز، ثمر الأرض وعمل الإنسان ؛ نقدّمه لكَ : فيصبح خبز الحياة." ونفس الشّيء، في وقت آخر، يقول الكاهن : " مبارك، أنتَ، يا ربّ، الّذي يُعطينا هذا الخمر، ثمر الكرمة وعمل الإنسان؛ نقدّمه لكَ فيصبح خمر الملكوت الأبدي." لماذا تُميّز الّليترجيّا بين" ثمر الأرض والكرمة" وبين عمل الإنسان"؟ "
٢)ألا يحدث لي أحياناً برغبة التّسلّط على قريبي في علاقاتي الزّوجيّة، الأخويّة، الوديّةن العمليّة وغيرها ؟ ما هي الجهود الّتي يجب أن أقوم بها، ما هي الوسائل الّتي يجب أن أعمل بها لتغييرغريزة السّيطرة الّتي تركد فيّ وجاهزة للخدمة ؟ ومن بإمكانه مساعدتي في هذا الإهتداء اليوميّ ؟
٣)إذهبوا أنتم أيضاً إلى كرمي ! عندما يحدّثنا الله، فهو يحدّثني أنا. دون استبعاد الجمع المستعمل من قبل الله(" إذهبوا") ؛(" أنتم") الّذي هو غنيّ بالمعاني، لذا فلا يجب خصوصاً إفساده أو إخفائه، باستطاعتي ترجمة هذه الدّعوة بتشخيصها قليلاً. فتكون على الشّكل التّالي : إذهب، أنتَ أيضاً إلى كرمي، حتّى يأتي
ملك الله! كيف بإمكاني الإجابة بشكل أفضل على هذه الدّعوة، على مشيئة الله هذه، في حياتي اليوميّة ؟